صنعاء – “اليمني الأميركي” – أحمد الأغبري
يمتلكُ اليمن مخزونًا كبيرًا من الإيقاعات الشعبية، والتي بدورها تسند رصيد البلد من الأغاني والرقصات الشعبية؛ وهذه الأخيرة تُمثّلُ تراثًا كبيرًا أسهمَ تنوع تضاريس البلد في تنوع هذا التراث؛ إذ لكل منطقة إيقاعاتها ورقصاتها؛ وهي رقصات تُمثّلُ ما مثّله الفن في حياة هذا البلد عبْر تاريخه، لتعكسَ إيقاعاتها وحركاتها وأزيائها وآلاتها مستوىً فنيًّا متطورًا يتجلى فيه مدى شغف اليمنيين بالفنون التعبيرية؛ وفي مقدمتها الرقص، هذا الفن الذي يبقى مكونًا أصيلاً من حياة وحضارة أيّ شعب مهما كان مستواه الثقافي.
وظل تراث اليمن من الرقصات الشعبية بعيدًا عن التوثيق إلى أنْ تولى الفنان علي المحمدي (مدير عام الفنون الشعبية بوزارة الثقافة) مع ياسمين الشلال، بمبادرة ذاتية، مهمة توثيق بعض هذا التراث وإصداره في كتاب يحملُ اسم “الرقصات الشعبية في اليمن”، وهذا الكتاب يُعدّ أول توثيق بالكلمة والصورة والتدوين للنغمة والإيقاع بالطريقة العلمية (النوتة الموسيقية) لهذا التراث، وقد اعتمدَ فيه مؤلِّفا الكِتاب على حصيلة معرفية بالمعايشة والمعاصرة والمشاركة العملية وبعض المراجع اليمنية والعربية المتوفرة، على قلّتها.
وفي تقديم الكتاب أشاد وزير الثقافة والإعلام اليمني الأسبق يحيى حسين العرشي بمحتواه الذي يُقدم هذا الفن على مستوى كلّ محافظة بإيضاح دقيق ومصور لهذا التنوع البديع وشروطه وملابسه.
وما زاد من قيمة الكتاب، حسب العرشي، هو تدوين الألحان والإيقاعات بالنوتة؛ وهي محاولة مهمة في تقديم وحفظ الفنون الموسيقية الراقصة وغيرها، والتي تزخرُ بها مناطق اليمن المختلفة.
فيما اعتبر وزير الثقافة اليمني الأسبق خالد الرويشان هذا الكتاب مهمًّا جدًّا؛ لأنه سابق في موضوعه، ومحاولة جادة لتوثيق أهم الرقصات في اليمن؛ وهو البلد الثري بالمئات من الرقصات بألوانها وأنواعها المختلفة، بالإضافة إلى أنّ معظم هذه الرقصات في طريقها للاندثار أو التغير في أحسن الأحوال.
واستهلّ الكِتاب مضمونه بتعريف الرقص، واستعرض مراحل تطوره باعتباره “أقدم تعبيرٍ عاطفي يستطيعُ الإنسان من خلاله أنْ يُترجمَ أحاسيسه المكنونة التي تتأججُ بداخله بسلاسة وأريحية تامة في حالاته المتعددة والمختلفة”.
تتمددُ فنون الرقص الشعبي في اليمن لتشمل البلد كله، وتتنوعُ بحسب تنوع البلاد جغرافيًّا، فلكلّ محافظة فنونها التعبيرية الراقصة التي تختلفُ وتلتقي مع رقصات المحافظات الأخرى؛ ففي محافظة أبين (جنوب)، وهي محافظة تزخرُ بكثيرٍ من المعالم الأثرية والتاريخية موزعة على كثير من مناطقها، نقفُ على تراثٍ زاخر في الرقص الشعبي، ومن أهم الرقصات هناك تبرزُ رقصة (الدحيف)؛ وهي رقصة ذات طابعٍ شعبي وتُحاكي الصيادين، ومستمَدة من عادات وتقاليد الصيادين لموسم صيد السمك الذي يكون فيه الخير وفيرًا، وبهذه المناسبة يتم الاحتفاء بها ليالٍ عدة. واستعرضَ الكتاب، ككلّ رقصة تناولها الكتاب، الأساس اللغوي للتسمية، وصولاً إلى إيقاعاتها وحركاتها ومراحل أدائها والميزان الموسيقي للرقصة والملابس المستخدَمة للرجال والنساء خلال تأديتها والآلات الموسيقية المستخدمة في الرقصة.
واستمر الكتاب باستعراض وتوثيق رقصات أخرى في المحافظة انتقالاً إلى محافظة البيضاء الواقعة في الجنوب الشرقي من صنعاء على بُعد 268 كم؛ وفي هذه المحافظة تم تسليط الضوء على عددٍ من الرقصات؛ منها رقصة (البرع البيضاني)، وهي رقصة جماعية حماسية تؤدَّى في المناسبات الاجتماعية كالزواج.
وفي محافظة الحديدة، الواقعة غرب اليمن على البحر الأحمر، توقف الكتاب عند عدد من الرقصات، منها رقصة (الحقفة)؛ وهي من أشهر وأجمل الرقصات بمدينة الحديدة… وتكون مناسبة للاحتفاء بالزواج والمناسبات الفرائحية الأخرى كالأعياد. وفي مناطق تهامة الأخرى تم التوقف عند رقصات مثل رقصة (الجْلّ) الساحلية ورقصة ( الفرساني) ورقصة (عطا).
وفي محافظة المحويت، الواقعة غرب شمال صنعاء، سلّط الكتاب الضوء على عددٍ من رقصاتها، أبرزها رقصة (السيفية)؛ والتي تُشبه في أدائها إلى حدٍّ كبيرٍ عرضًا عسكريًّا يُظهر الشموخ والصرامة البالغة التي تلحظها في مشية الراقص بانتصاب جسده الذي ينم عن فخرٍ واعتزازٍ بنفسه.
أما محافظة المهرة، الواقعة شرق اليمن، فتزخرُ بعددٍ من الرقصات، أبرزها رقصة (البرع المهري) ورقصة (البديئة)، والتي لها طابعٌ قديم تتناقله الأجيال. وفي محافظة تعز، الواقعة جنوب غرب البلاد، وثّق الكتاب عددًا من رقصاتها، أبرزها رقصة (الرزين والخفيف) ورقصة (البرع الحُجري).
وبالإضافة إلى اشتغال الكتاب على مصادر التسميات والحركات والإيقاعات والألحان والملابس والآلات عزّز توثيقه للرقصات بالصور.
وفي محافظة حضرموت، شرق اليمن، سلّط الكِتاب الضوء على رقصة (الزربادي)، ورقصة (غيل بني يُمين)، ورقصة (الهبيش)، ورقصة (الغية) وغيرها من الرقصات التي تشتهرُ بها مناطق هذه المحافظة الكبيرة. أما في محافظة شبوة فتوقف الكتاب عند عدد من رقصاتها مثل رقصة (بئر علي) ورقصة (النسر) ورقصة (سحار)… ومن محافظة شبوة انتقلَ الكِتاب إلى محافظة صعدة في الشمال، راصدًا عددًا من رقصاتها كرقصة (النسر).
عقب ذلك انتقلَ الكِتاب إلى محافظة صنعاء موثِّقًا بعض رقصاتها الشهيرة مثل رقصة (البرع الصنعاني)، التي تتكونُ من أربعة إيقاعات مختلفة على أساس أنْ يكون بناؤها بناءً تصاعديًّا… وكذلك رقصة (المزمار) ورقصة (الشعوبية)، قبل الانتقال إلى محافظة عدن جنوب البلاد، وهناك نتوقفُ عند عدد من الرقصات الجميلة مثل رقصة (الليوا)، والتي عُرِفت عبْر فترات زمنية من تاريخ اليمن، وحسب مؤرخين فقد ظهرت في أربعينيات القرن الماضي… واستعرضَ الكِتاب عددًا من الأغنيات المصاحبة لهذه الرقصة.
محافظة لحج، الواقعة على الجنوب الشرقي من البلاد، تمتلكُ تراثًا غنائيًّا كبيرًا؛ وبالتالي فتراثها من الرقصات زاخر، ومن أبرز الرقصات التي وثّقها الكتاب هناك رقصة (الشرح) الشهيرة، والتي يعودُ معنى اسمها إلى الانشراح والانبساط؛ لكونها رقصة فرائحية. بالإضافة إليها توقف الكتاب عند رقصة (المركح) وغيرها من الرقصات هناك. وفي محافظة مأرب سلَّط الكتاب الضوء على رقصة باسم رقصة (مأرب).
تضمّن الكتابُ ملحقًا مصورًا للآلات الموسيقية المستخدمة مع الرقصات الشعبية اليمنية، وملحقًا آخر مصورًا للأزياء الشعبية التي يستخدمها الراقصون من الرجال والنساء، بالإضافة إلى ملحق للحُلي الشعبية (الزينة) التي تستخدمها الراقصات، وصورًا لأنواع الجنابي (خناجر الزينة) التي يتمنطقُ بها الراقصون في مختلف مناطق البلاد.
يُمثّل هذا الكِتاب، الذي صدر في 276 صفحة، المرجع الوحيد الذي يوثّق لأشهر وأهم الرقصات الشعبية اليمنية، وبالتالي يُعد صدوره خطوة مهمة في سبيل التوثيق والتعريف بهذا التراث الشعبي المهم الذي يتعرضُ لمخاطر الضياع بسبب تأخُّر ومحدودية جهود توثيقه.
تعليقات