وجدي الأهدل*
يستثمر الروائي الإنجليزي هربرت جورج ويلز ذعر الإنسان من الكائنات الخفية ويحوله إلى خيال أدبي مثير لأقصى درجات الاهتمام.. لقد تخيّل نجاح أحد أفراد الجماعة البشرية في إخفاء نفسه عن بني جنسه!
تنتمي رواية “الرجل الخفي” (ترجمة رءوف وصفي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2009) إلى أدب الخيال العلمي، وهي تشرح بالتفصيل كيف تمكن العالِم التجريبي (جريفين) من استنباط معادلة هندسية تؤدي إلى خفض معامل انكسار المادة بحيث تصبح شفافة كالهواء، وهو بدأ تجاربه على قطعة صوف بيضاء فتمكن من إخفائها، ثم قام بتكرار التجربة على قطة وتعرض للفشل، إذ لم تختفِ كليًّا وظلت عيناها ومخالبها مرئيتين. وفي غمرة الصعوبات الحياتية التي يعاني منها، فكر أن يقوم بالتجربة على نفسه، ليتخلص من مشاكله، وفي الوقت المناسب أنقذ نفسه، ونجح في أن يصير خفيًّا، ولكن هذا النجاح الفوري، تحول بالتدريج إلى إخفاق مريع.
تبدأ الرواية بظهور سيد غريب الهيئة في بلدة (إيبنج) النائية، يصل بالقطار ولديه قدر كبير من الحقائب والمعدات والتجهيزات، ويسكن في الفندق الوحيد مُغلقًا الباب على نفسه متجنبًا الاختلاط بأيّ أحد من سكان البلدة، وحتى مالكة الفندق لم تكن تعرف اسمه أو حتى شكل وجهه. تدور أقاويل كثيرة حول هذا الزائر، ويظن البعض أنه مجرم هارب من العدالة.. تمر عليه ثلاثة أشهر وهو في عزلته مع قنيناته الألف والمولدين الكهربائيين الصغيرين والمشعات يعمل ليل نهار، محاولًا عكس العملية وإظهار نفسه، ثم ينفد ماله فيسلك سلوكًا إجراميًّا، ويقوم بالسطو على بيت القس (بانتنج) وسرقة أمواله. تتوالى السرقات وينكشف أمره، فتقوم البلدة بمطاردته بوحشية، يفر إلى بلدة أخرى وتستمر الأحداث العنيفة في التفاقم، ثم يلقى مصرعه في شارع عام على يد حشد غاضب من الناس.
تحفل الرواية بالكثير من الإثارة والتشويق العاليين، بالإضافة إلى الخيال الأدبي الأصيل الذي خلب ألباب القراء في جميع أنحاء العالم.
لا يهتم هربرت جورج ويلز كثيرًا بالبناء الروائي وإحكامه، لأنه يعلم أن أصالة أفكاره سوف تحدث ما يشبه الانفجار في أدمغة المتلقين.. فإذا بالقراء من الكبار والصغار يشاركونه هذا الحلم، وتنتابهم الرغبة الحارقة للاختفاء عن الأنظار مثل (جريفين) بطل الرواية.
منذ أن نشر هربرت جورج ويلز روايته بزغ فرع جديد في العلم، هدفه البحث في إمكانية إخفاء البشر أو الآليات عن الرؤية، وغالبًا ما كانت هذه الأبحاث سرّية، ولأغراض عسكرية.
إلى أين وصل العلماء في هذا الاتجاه؟ قد يبدو مفاجئًا للبعض أن العلم قد قطع شوطًا مهمًّا باتجاه الإخفاء، وذلك باستخدام التقنية النانوية، أو الاحتجاب عن الرؤية عبر شبه مادة البلاسمونيكس.
يذكر العالِم ميشيو كاكو في كتابه “فيزياء المستحيل” رأيه حول هذا الموضوع:
“بينما من الممكن الحصول على معطف إخفاء حقيقي بحسب قوانين الفيزياء، كما يوافق معظم الفيزيائيين الآن، هناك عدد من العقبات الفنية الصعبة قبل أن تطور هذه التقانة لتعمل على الضوء المرئي بدلًا من الإشعاع الميكروي فقط.. وبالنظر إلى الخطوات الكبيرة التي حُققت حتى الآن لتحقيق الإخفاء، فإنها تصنف على أنها مستحيلات من الصنف الأول، وقد يصبح نوع من الإخفاء، خلال العقود المقبلة أو على الأقل خلال هذا القرن، أمرًا شائعًا”.
إن عبقرية هذا الكاتب الإنجليزي ذات خصوصية لا مثيل لها بين كتّاب الرواية على الإطلاق، ومعظم كتبه فتحت آفاقًا للعلم لم يفكر بها أحد من قبله، بما في ذلك العلماء أنفسهم.. وعلى سبيل المثال فإن العلماء الذين طوروا القنبلة الذرية قالوا إنهم استمدوا الفكرة من كتابه “العالم يتحرر” الذي تنبأ بقنبلة يمكنها محو مدينة كاملة.
ويمكن القول إن روايته “آلة الزمن” هي العمل الأدبي الأعظم سحرًا للمخيلة البشرية على مر التاريخ، وكما نعلم فإن العشرات من الأفلام السينمائية، وأفلام الرسوم المتحركة، والمسرحيات، وعددًا لا يُحصى من روايات الخيال العلمي، شرقًا وغربًا، قد استلهمت أفكار رواياته، وطورتها، واستفادت من منجزات العلم في إعادة صياغتها، وفتح آفاق جديدة للمستقبل الذي تحلم به البشرية.
لا نجد في رواية “الرجل الخفي” تحليلًا نفسيًّا للشخصيات، ولكننا نجد تحليلًا فذًّا للرغبة البشرية الدفينة في الاختفاء عن الأنظار، وهو يصل إلى نتيجة تبدو حتمية، وهي أن هذه الإمكانية، أي القدرة على الاحتجاب عن الرؤية، ستقود مالكها إلى فعل أمور شريرة.
يرى ويلز أن الجماعة أو الدولة التي ستحوز هذا السلاح لن توفره للأغراض السلمية، أو لأجل أهداف تخدم الصالح العام للإنسانية، وإنما بغرض تحقيق مكاسب غير مشروعة.. وهذا ما نستنتجه من التطور النفسي لشخصية (جريفين) بطل الرواية، الذي هو في الأصل رجل عادي، كان يدرس الطب ثم تحول إلى دراسة الفيزياء، وهو أيضًا يتمتع بأخلاق طيبة عادية، ولكن نجاحه في إخفاء نفسه، أدى إلى تطور سلبي لشخصيته، فإذا هو يتحول ويتبدل، فيطفو إلى السطح الشر الكامن في نفسه، فيغدو مجرمًا يتعمد إشعال الحرائق وإثارة ذعر الناس وسرقتهم، حتى يجد نفسه في نهاية المطاف مضطرًّا لاستخدام العنف، الذي يبلغ ذروة درجاته بالإقدام على القتل.
ويبدو أن إغراء القتل وإيقاعه بالخصوم هو التطور الطبيعي عندما يمتلك الإنسان هذا السلاح!
إن هذا المسار الذي رسمه ويلز لشخصية (جريفين) هو نوع من التنبؤ بالمسار النفسي للشخصية التي ستمتلك هذا السلاح مستقبلًا.. لأن لهذا السلاح تأثيره النفسي المغري على حامله، والمسألة بحسب الباحثين هي مسألة وقت فقط، ولعله ثمة تنافس محتدم بين الدول المتقدمة لاختراع “بدلة الإخفاء”، التي قد تستخدم من ضمن استخدامات أخرى كثيرة لتنفيذ عمليات الاغتيال.
النهاية المأساوية للرجل الخفي (جريفين) هي نوع مبطن من التحذير الذي يطلقه ويلز في وجه كل من يسعى لامتلاك هذه التقنية.. وهو يرى بحدسه الثاقب أن امتلاكها سيفتح بابًا للشر لا يمكن إغلاقه، وأنه لا بد من الردع السريع الحاسم لمن يُغامر بالحصول عليها.
كالعادة كتب هربرت جورج ويلز رواية غير عادية، سوف تسعد ملايين القراء عبر العصور، وتشغل بال النخبة من العلماء وتطرح عليهم تحديًا علميًّا مثيرًا، قد يحتاج منهم إلى ثلاثين سنة، أو ربما ثلاثمائة سنة لكسبه، وتحويل الخيال الروائي إلى واقع عادي.
*روائي وكاتب يمني.
تعليقات