وجدي الأهدل*
يعترض المفكر والفيلسوف الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه “السنن النفسية لتطور الأمم” على مبدأ المساواة، بحجة أنه يساوي بين الأعراق الأوروبية العليا والأعراق الأدنى مثل العرب والصينيين والأفارقة.. لكن الأيام أثبتتْ – بعد مرور مئة عام وزيادة على صدور كتابه – أن مبدأ المساواة الذي أقرته دساتير الأمم الغربية قد أنقذها من الشيخوخة، فأمدتها تلك الأعراق بحيوية هائلة في العلوم والفنون والآداب، ويكفي أن ننظر إلى مساهمة العرق الزنجي في الفن الأمريكي المعاصر لندرك سقطة (لوبون) التي لا تُغتفر حول هذه النقطة.
وجوستاف لوبون هو الذي صحح زلته بنفسه حين شرح في كتابه الآنف الذكر أن الحضارات تقوم على (الخُلق) لا على (الذكاء):
“وخُلق الأمة، لا ذكاؤها، هو الذي يعيِّن تطورها في التاريخ وينظم مصيرها”(1).
وبما أن (الأخلاق) تأتي في المرتبة الأولى قبل الذكاء، فإن حضارة الغرب اليوم متفوقة أخلاقيًّا على الشرق، من حيث تطبيقها لمبادئ حقوق الإنسان، وفي مقدمتها مبدأ المساواة، وهذا التفوق الأخلاقي هو السبب المباشر في ازدهار الحضارة الغربية وتطورها، وسيطرة شعوبها على كوكب الأرض.
قد يُظَنُّ للوهلة الأولى أن الأوروبيين مغفلين بسماحهم لملايين اللاجئين بالاستقرار في بلدانهم، ولكن هذا الظن خاطئ، فالإنسان الأوروبي يعرف أنه يحصل على عنصر ثمين من هؤلاء اللاجئين، وهو (التنوع) الثقافي.
وما تزال الولايات المتحدة الأمريكية تستقبل سنويًّا خمسة وخمسين ألف مهاجر من جميع دول العالم دون تمييز، عن طريق لوتري أمريكا، تأشيرة الهجرة التعددية (DV)، والهدف من هذا البرنامج هو تنويع السكان المهاجرين في الولايات المتحدة الأمريكية.
قد يقول قائل إن بإمكان الأمة أن تصنع نهضتها دون الحاجة إلى التعدد الثقافي.. والجواب هو لا مع الأسف.. ويمكن لمن يبحث في هذه النقطة، ولا يبخل بوقته، أن يُحبِّر المجلدات ذات العدد لتوكيد أن التعدد الثقافي هو العنصر الحاسم في نهضة الأمة.
ويمكن أن نستدل على صحة هذا الرأي من وجهٍ لا يخطر ببال الكثيرين، ونأخذ هذا الاستدلال من جوستاف لوبون:
“الأموات يسيطرون على دائرة اللا شعور الواسعة، تلك المنطقة الخفية التي يصدر عنها جميع مظاهر الذكاء والأخلاق، والشعب مُسير بأمواته أكثر مما بأحيائه، وبالأموات وحدهم يقوم العرق، والأموات في القرن بعد القرن هم الذين أوجدوا أفكارنا ومشاعرنا، ومن ثم جميع عوامل سيرنا، والأجيال الغابرة تفرض علينا أفكارها فضلًا عن مزاجها الجثماني، والأموات وحدهم هم سادة الأحياء بلا جدال، ونحن نحمل وزر خطايا الأموات ونقتطف ثمرة فضائلهم”(2).
ويتضح من هذا المقتطف أن عادات وتقاليد وأفكار الأموات تلقي بظلها على الأحياء، فتكاد تقيدهم بقيود غير مرئية، فإذا هم لا شعوريًّا مثل جمل المعصرة الذي رُبطت على عينيه خرقة لكي لا يرى شيئًا، فيظل يدور في مكانه هانئ البال غير مدرك أنه أفنى عمره في الدوران البائس حول نفسه.. ولو رُفعت العصابة عن عينيه وأُجبر على مواصلة العمل والحياة بهذه الطريقة لانفجر قلبه قهرًا.
ويشبه العرب في وقتنا الحاضر جمل المعصرة، وأما الخرقة التي تحجب عنهم رؤية الحقائق فهي مشاعر وأفكار الأموات المتوارثة منذ مئات السنوات.
يساهم التعدد الثقافي في التخلص من الخرقة التي تمنع الرؤية، وأما قرار الخروج من المعصرة إلى الدنيا الواسعة فيحتاج إلى إرادة وثقة بالنفس لترك جانب من إرث الأولين، الجانب الأضعف وغير الملائم للتعايش مع الأمم الأخرى.
نستنتج من المقطع الذي أوردناه من كتاب جوستاف لوبون، أنه في جميع الأمم يسيطر الأموات على الأحياء بلا استثناء، ولكن بنسب متفاوتة، ففي الأقوام الهمجية التي ترفض رفضًا قاطعًا أيّ مؤثرات خارجية، تكون نسبة سيطرة أمواتهم على أحيائهم 100%، فإذا هم عرضة للانقراض، وقد انقرضت عدة جماعات بدائية لعجزها عن التكيف مع المتغيرات، وإصرارها على البقاء في الماضي مع الأموات، فإذا بمجرفة التاريخ التي لا ترحم تجرفهم إلى المتحف.
وأما الأمم المتحضرة فتتقلص هذه النسبة لديهم، حسب نشاط الأحياء وذكائهم، وقدرتهم على الخلق والإبداع والابتكار والاختراع، ومدى ما يُبدونه من مرونة سياسية واجتماعية، والتكيّف مع الجديد بتجديد أحوالهم.
حتى الآن لم يتم اختراع ميزان يقيس درجة سيطرة الأموات على الأحياء، ولكن بالتخمين يمكن القول إن العرب الأحياء واقعون تحت سيطرة الأموات بنسبة تصل إلى 95%، في المدن، وترتفع النسبة في الأرياف، فإن نسبة 5% من (التنوع) التي يصنعها الأحياء محدودة الأثر، ولا تكفي لصنع نهضة حقيقية، وأما مسألة نشوء (حضارة) عربية على غرار الحضارة الغربية فهذا أمر يتطلب كف سيطرة أخلاق وأفكار الأموات بنسبة لا تقل عن 50%، وما أراه أن العرب يعيشون في جلد أمواتهم أكثر مما يعيشون في جلودهم هم، فهم يشبهون الفقير الذي يلبس ثوبًا مرقعًا أبلاه الدهر ورثه عن والده، فهو مقتنع به ولا يسعى إلى اكتساب ثوب جديد.. وهذا الفقير يعتز بثوب والده فهو أثير عنده، وتربطه علاقة عاطفية قوية بهذا الثوب، ولكنه لا ينتبه أن القماش يبلى ويتمزق، وإذا لم يكتسب ثوبًا غيره فمصيره أن يعرى وتظهر عورته.. فكذلك العرب لا يرون أنفسهم إلا كأوفياء لعادات وتقاليد أسلافهم، وأما الصدمة فهي أن الأمم المحيطة بنا والأمم البعيدة عنا ترانا على حقيقتنا، ترى أخلاقنا وأفكارنا كثوب بالٍ مُرقع فيه ثقوب تكشف المناطق الحساسة في أجسامنا!
المصارحة مؤلمة، ولكنها واجبة لنستيقظ.
- السنن النفسية لتطور الأمم: جوستاف لوبون، ترجمة عادل زعيتر، دار فارس للنشر والتوزيع، القاهرة، 2018، الطبعة الأولى، ص 50.
- المصدر نفسه، ص 34.
* روائي وكاتب يمني.
تعليقات