عبد الباري طاهر
الحرب – وربما لأول مرة في التاريخ – تعمّ اليمن من أقصاه إلى أقصاه. هذه الحرب التي بدأت بانقلاب علي عبد الله صالح -الرئيس اليمني السابق- متحالفًا مع الحوثيين (أنصار الله) في الـ 21 من سبتمبر 2014.
هذه الحرب انتشرت بسرعة البرق لتجتاح أغلب المدن اليمنية: (عمران، صنعاء، تعز، وعدن، وحضرموت، والحديدة)، مع استثناء مارب والمهرة وسقطرة.
غرائبية الحرب لا تقل عن استطالتها وجرائمها وكثرة الأطراف المنخرطة فيها. غرائبيتها أن العمل السياسي فيها غائب أو ضعيف جدًّا، وهي تعتمد – بالأساس – على مليشيات مسلحة تتقاتل مع بعضها في ظل غياب أو ضعف التوجيه السياسي، وعدم وجود رسم واضح ومحدد لتكتيكها واستراتيجيتها.. فالمليشيات هي القوة الأساس لدى كل الأطراف، بما في ذلك الجيش الرسمي الذي كان يقوده صالح وأولاده وأولاد إخوته وأقربائه، فما أسرع ما تحول إلى مليشيات توزعت على جبهات القتال؛ ليقاتل بعضها بعضًا.
الأحزاب السياسية غائبة أو ضعيفة هي الأخرى، وقادة المليشيات هم كل شيء.. فالحزبان الكبيران: (الإصلاح والمؤتمر) تغيب سلطتهما عن إدارة المعارك؛ فقد سلّما الأوراق للقوى الإقليمية، وهما معرضان – مع “أنصار الله”، والحراك الجنوبي المسلح – للتفكك والانقسام. فإصلاح الرياض غير إصلاح الدوحة وتركيا، وغير إصلاح العديد من مناطق الداخل.. أما المؤتمر – بعد مقتل صالح وحتى قبل مقتله – فقد أصبح أكثر من مؤتمر، وخلافاته جدًّا كبيرة..
في الجنوب هناك سلطات الأمر الواقع: قوة موالية لعبد ربه، والحراك المسلح، والأحزمة الأمنية، والنخب المنتشرة في مناطقه المختلفة.. المجلس الانتقالي يقبل بعبد ربه – الرئيس المنتخب والمعترف به دوليًّا – بتحفظ، بينما لا يقبل بـ “حكومة ابن دغر”.
المليشيات هي القوة الحقيقية على الأرض في جميع الجبهات، أما القيادات السياسية للأحزاب والمليشيات فإنها لا تمارس تأثيرًا فاعلاً، ويبدو أن الأمر كله قد تُرك لقيادتي التحالف: العربية السعودية، والإمارات المتحدة.. هذان الحليفان الأساسيان الوارطان في الحرب وتمويلها يتقاسمان المناطق والمهام، ويختلفان في الأهداف وفي التحالفات.. فمنذ بداية الحرب كان اهتمام السعودية بالجبهة الشمالية والمناطق الحدودية معها: (نهم وصرواح، والجوف وصعدة وحرض وميدي).. أما الإمارات فقد ساندت الحراك الجنوبي المسلح، واستطاع الجنوبيون بمساعدتها التخلص من قوات صالح و”أنصار الله”.
منذ بدء الحرب الخارجية في 25 مارس 2015 عسكر الطيران السعودي والإماراتي في سماء اليمن، وتركز التواجد العسكري للإمارات في الجنوب، وعينه مصوبة نحو الموانئ والجزر اليمنية في سياق استراتيجية دولية.. لقد توافق الحليفان على اقتسام ليس بالبريء، وله علاقة بأهداف الحرب وأبعادها.
تقسيم الحرب بينهما جعل مساحة الشمال مجال حرب حلفاء السعودية مسنودين بالطيران، وهذه الجبهة تضم كبار المشايخ الموالين للسعودية وعددًا من جيش صالح وأنصاره ومؤيديه، كما تضم الجبهة – أيضًا – مليشيات التجمع اليمني للإصلاح بقيادة الجنرال علي محسن.
اقتسام السعودية والإمارات للمناطق وللمشايخ وكبار الضباط والحراك المسلح في الجنوب والنخب والأحزمة الأمنية له علاقة بهدف تفكيك المنطقة كلها، ووضع اليمنيين، بما فيهم الموالين لهم – وجلهم موالون – في حرب مستمرة مع بعضهم، كما أن للأمر – أيضًا – علاقةً بنهج توازن الضعف؛ وهذا ما أطال ويطيل أمد الحرب.. أما الطرف الدولي الأقوى فيلعب دورًا في تلجيم طرفي الحرب الخارجية: (السعودية، والإمارات) مراعاةً للحالة القائمة، وله أيضًا حساباته الخاصة.
ثلاثة أعوام والمعارك تدور في ثلاثين كيلو متر مربع في نهم، وتشهد جولات كر وفر لا تتجاوز المساحة المرسومة.. أما في صرواح، فالمعارك تدور حول تباب لا تتجاوزها، والأمر لا يختلف كثيرًا في البيضاء و صعدة وحجة.
ميادين القتال في الساحل التهامي حقق التحالف فيها انتصارًا كبيرًا وخاطفًا بإسقاط المخا والخوخة وحيس والجراحي، وصولاً إلى مطار الحديدة، ولكنه لم يحسم المعركة ولن يحسمها؛ فالأوهام الكبيرة في هذه الحرب هي الملمح الأهم..!
راهنت إيران على تطويق السعودية واختراق خاصرتها الجنوبية بواسطة الحوثيين، وانخدع الإيرانيون بالاجتياح السريع لمليشيات الحوثيين بواسطة قوة صالح المسيطرة حينها على اليمن كلها، وانزلقت السعودية مع حلفائها إلى المعركة بدون خطة أو رؤية استراتيجية؛ فقد اعتمدت على تفوقها العسكري والجوي وتحالفاتها الواسعة، وعلى الرفض الشعبي لتحالف صالح و”أنصار الله”، واهمةً أن المعركة لن تستغرق أكثر من أسابيع أو أشهر، فغرقت في مستنقع حرب لا نجاة لها منها.
كان الوهم – ولا يزال – قاسمًا مشتركًا بين أطراف الحرب؛ فصالح كان يعتقد أن الحوثيين مجرد كرت يلعب به ويستعيد به عرشه ثم يحرقه، كما فعل مع حزب الإصلاح في السابق؛ فذهب ضحية وهمه.
حزب الإصلاح الطرف الرئيس والأهم في الحرب، وهو أيضًا ضحيتها الكبرى؛ فالإمارات ضده على طول الخط، والسعوديون والأميركان يتعاملان معه بحذر شديد، وهو الآن يتعرض لتصفيات وحملات قاسية.. ولعل الرهان الأسوأ هو رهان التمكين أو الظهور؛ فإن الرهان على زمن الظهور هو العملة المتداولة.
الأوهام، والمصالح المتضاربة، ومطامع القوى الإقليمية والدولية هي ما يطيل أمد الحرب ويعومها، ويحولها إلى حرب منسية.
تعليقات