وجدي الأهدل*
من هو مؤلف التوراة؟.. الجواب الأول نبيّ الله موسى، والجواب الثاني الذي يُرجحه المؤرخون أن التوراة كُتبتْ على فترات زمنية متعاقبة بيد الحاخامات اليهود.
الجواب الثالث الذي يُمكن أنْ ننسبه إلى علم الجغرافيا، يشير إلى أنّ التوراة كتبها حَبْر يمني كان يعيش على الأرجح في سلسلة جبال اليمن الغربية المطلة على البحر الأحمر، وبصورة أكثر دقة، كُتبتْ أجزاؤها الأولى – الأكثر أهمية – في هذا الجزء النائي من العالم القديم.
عندما نقرأ كتاب “القدس ليست أورشليم” للباحث فاضل الربيعي (صادر عن شركة رياض الريس، بيروت، 2010) نجد مقاربة تستند على علم
الجغرافيا، وهي مقاربة تبني أطروحتها على شواهد مكانية مأخوذة من التوراة، وإسقاطها على مواقع في الخريطة الجغرافية لليمن.
وهذا الإسقاط يستند إلى حدّ كبير على كتاب جغرافي قديم وقيّم هو “صفة جزيرة العرب” لعلامة اليمن الحسن الهمداني.
نحنُ نعلم أن كمال الصليبي قد سبق له أن فعل ذلك في كتابه “التوراة جاءت من جزيرة العرب” مُطبقًا الإجراءات العلمية ذاتها، مشيرًا إلى أن المواضع
المذكورة في التوراة تتطابق مع جغرافيا مخلاف عسير.
وقبلهما أشار علماء أوروبيون إلى أن منطقة جنوب شبه الجزيرة العربية هي مهد التوراة.
سوف أُركز على أطروحة فاضل الربيعي المبسوطة في كتابه “القدس ليست أورشليم”، لأنه يبدو لي قد توصل إلى أدلة جغرافية مثيرة للاهتمام.
ما ينقص طبعًا لتدعيم هذه “الأدلة الجغرافية” هو العثور على شواهد أثرية تؤكد صحة ما طرحه (الربيعي).
حتى الآن لم يتم العثور على أيّة لقى أثرية أو رقوق قديمة أو نقوش في اليمن أو عسير يمكن أن تؤيد أطروحة (الربيعي) وتحسم الجدل بشأنها نهائيًّا.
يتحدث فاضل الربيعي عن مؤامرة لتغييب هذه الأدلة المادية أو حتى تدميرها:
“النظرية السائدة والقائلة: إن أورشليم كانت تدعى القدس، أو أن هذه كانت تدعى بيت بوس، مبنية بالكامل على تلاعب مدروس ومنهجي قام به علماء
آثار وباحثون ومستشرقون من التيار التوراتي. لقد نهب هؤلاء المنقبون والرحالة وعلماء الآثار – وعلى امتداد عقود من البحث الأثري والسطو اللصوصي المنظم – كنوز اليمن التي لا تُقدّر بثمن، وجرى بقصد فاضح، إخفاء أيّ أثر لها”.
لا أوافق الباحث (الربيعي) على نظرية المؤامرة، لأن هذه تتطلب إجماعًا، وأن يظل هذا التآمر ساري المفعول طيلة عقود دون أن يهتز ضمير أحدهم!
يمكن أن نوافق على مضض أن هناك عالم آثار واحد أو كحد أقصى بعثة أثرية واحدة كان له أو كانت لها أجندة خفية تمنعها من الكشف بنزاهة تامة
عن مضمون اللقى الأثرية والنقوش.
وتقديري الشخصي أن بعثات التنقيب الأميركية والألمانية والفرنسية والبريطانية والإيطالية والكندية والهولندية لم تعثر مطلقًا على أيّ دليل
مادي يؤكد أن إسرائيل القديمة وعاصمتها أورشليم تقع في اليمن.
لكن من جهة أخرى، أجزم أنّ ما تم استخراجه من آثار اليمن لا يتجاوز 1% من مجموع الآثار المدفونة تحت سطح الأرض.
ميزة العمل البحثي الجبار الذي قام به فاضل الربيعي هو أنه يقودنا إلى المواقع الجغرافية التي يفترض التنقيب فيها بحثًا عن آثار إسرائيلية.
معظم بعثات التنقيب الأثرية قامت بالحفر والتنقيب في المناطق الصحراوية الداخلية المتاخمة لصحراء الربع الخالي، أيّ في الجوف ومأرب وشبوة
وحضرموت.
وهذا يُفسر لماذا لم تعثر هذه البعثات على أية أثار إسرائيلية. وحتى ملكة سبأ التي ذُكرت في التوراة والقرآن الكريم لم يعثروا مع الأسف على أيّ أثر
مادي لها.
لكن بالاعتماد على الخريطة الجغرافية التي توصل إليها الباحث الربيعي، فإنه يمكن لبعثات التنقيب تغيير الاتجاه من الصحارى الشرقية في اليمن إلى
الجبال والسهول الساحلية الغربية.
والمناطق الجغرافية التي يمكن لبعثات التنقيب الأثرية الحفر فيها – بحسب الربيعي – هي:
1- قَدَس: جبل، يقع على مسافة 80 كلم جنوب مدينة تعز.
2- وادي المفاليس: يقع جنوب مديرية حيفان التي تبعد مسافة 60 كلم عن مدينة تعز.
3- بيت بوس: قرية مهجورة تقع في الجنوب الغربي لمدينة صنعاء.
هذه هي المواقع الرئيسية الثلاث التي يمكن لبعثات الآثار التركيز عليها، بالإضافة إلى عشرات المواقع الأخرى الثانوية التي ورد ذكرها في كتاب الباحث.
للمواقع الثلاثة السابق ذكرها أهمية استثنائية؛ لأن الباحث الربيعي يذكر أن القُدس المذكورة في التوراة هي جبل في اليمن اسمه “قَدَس”، وأن أورشليم هي “بيت بوس” اليمنية، وأن الفلستيون المذكورون في التوراة – أيّ الفلسطينيون – هم سكان وادي المفاليس في اليمن.. ومن المفترض. وفقًا لأطروحة الربيعي أن هذه المواقع الجغرافية اليمنية قد شهدت نشاطًا استيطانيًّا كثيفًا، ومن المحتم عند الحفر إلى المستويات المناسبة العثور على بقايا للدور والمعابد والأدوات التي تعود إلى تلك الحقبة الزمنية.
نأتي إلى الجانب الضعيف في الأطروحة العلمية للباحث فاضل الربيعي:
إن أيّ قارئ سطحي لتاريخ الشرق الأوسط القديم سوف يلحظ بسهولة التناقضات التاريخية التي وقع فيها الباحث لإثبات أن مدينة القدس الحالية ليست
هي المقصودة في التوراة.
لقد جعل مسألة الصراع العربي – الإسرائيلي على مدينة القدس محركًا لبحثه التأريخي، ولكن هذه مسألة طارئة ينبغي وضعها خارج سياق البحث
التاريخي الرصين.
لقد وقع البحث في ضلالات؛ بسبب تمحوره حول قضية جزئية تتعلق بمدينة القدس، وجرّ نفسه إلى تحليلات متناقضة لتتفق مع رؤيته، وفاته أن يعالج
المسألة معالجة كلية شاملة.
مثلاً يضطر الباحث الربيعي إلى الزعم بأن الرومانيين قد احتلوا اليمن، ليبرر ما ورد في سفر “المكابيين” بشأن الحروب الطاحنة التي جرت بين
الجيوش الرومانية الجرارة والقبائل الإسرائيلية!.
مع الأسف لم يشر المؤرخون لا في الغرب ولا في الشرق، سواءً أكانوا من المؤرخين القدامى أم من المؤرخين في العصر الحديث، إلى نجاح روما في
بسط سيطرتها على اليمن.
ولكن (الربيعي) يضطر إلى هذه التخريجة العجيبة، التي لا سند لها من الكتب التاريخية، ليثبت بطريقة متعسفة صحة فرضيته.
نجد في سفر المكابيين إشارات إلى تساقط الثلوج، وهذه الظاهرة المناخية لا تحدث في اليمن.. إن علم الجغرافيا الذي يستند عليه (الربيعي) يخونه هنا،
أضف إلى ذلك أن المواقع الجغرافية المذكورة في سفر المكابيين تطابق جغرافيا الشرق الأدنى بيسر، على العكس من محاولة (الربيعي) الذي تكلف
تحويرات لغوية عسيرة لإسقاطها على الجغرافية اليمنية.
من الواضح أن هذه الأسفار التي كُتبتْ في أزمنة متأخرة – ومنها سفر المكابيين – قد دُونت في بيئة شرق المتوسط، وتطرقتْ إلى الأحداث التي وقعت
هناك.
وعلى غرار ما ذكر آنفًا، هناك العشرات من الثغرات غير المنطقية التي تكفي أيّة واحدة منها لهدم أطروحة الباحث الربيعي كاملة.. منها مثلاً
قوله: إن النص التوراتي يقصد بجماعة “الزبديون”; سكان مدينة زبيد اليمنية.. وهذا الاستدلال خاطئ؛ لأن مدينة زبيد اليمنية حديثة النشأة، ويعود تاريخ تأسيسها إلى عام 819 ميلادية على يد محمد بن زياد.
الأقرب للمنطق، ولتقليص حجم التناقضات في أطروحة الربيعي، يمكن أن نضع بين أيدي الباحثين اقتراحًا يفضي إلى أن التوراة قد كُتبتْ على
مرحلتين:
1- الأجزاء الأولى “الأقدم” كُتبتْ في اليمن، ووقعتْ أحداثها في اليمن.. في الفترة ما بين (1213ق.م – العام الميلادي الأول).
2- الأجزاء الأخيرة “الأحدث” كُتبتْ في الشرق الأدنى، ووقعت أحداثها في فلسطين، وتحديدًا في العصر الروماني (27 ق.م – 476 م)، مع الأخذ في الاعتبار حدوث هجرات للقبائل الإسرائيلية من اليمن إلى فلسطين خلال الألف الأولى قبل الميلاد.
إذا أخذنا بهذا الاقتراح – تقسيم التوراة إلى جزأين (قديم وحديث) – فإن أطروحة (الربيعي) في كتابه “القدس ليست أورشليم” ستغدو متماسكة أكثر،
وتقريبًا ستزول 50% من العيوب التي تعتري الأطروحة.
إن السيناريو التاريخي الذي طرحه الباحث فاضل الربيعي شديد الأهمية، ولابد أن تؤخذ أطروحته بجدية شديدة، وخصوصًا من جانب الحكومات
العربية؛ لأنه في حال ثبوت صحتها فإن التاريخ البشري كله سيتغير جذريًّا، وستنهض حقائق تاريخية جديدة كليًّا، وعلى الأرجح ستكون مذهلة
أكثر من اكتشاف كريستوفر كولومبس لقارة أميركا.
*روائي يمني
تعليقات