حميد عقبي*
يبدو أني سأتفق مع الصديق الناقد حكمت الحاج، والذي يرى أن ننظر لأيّ نص إبداعي وأي مبدع أو مبدعة دون أن نربطهم بالمكان والجنسية، المبدع في فلسطين أو اليمن أو أي بقعة من العالم هو يخلق إبداعًا، وربط هذا الإبداع بهذا البلد أو ذاك لن يضيف أو يُنقص أو يزيد من جودة مادته.
حسنًا.. سأقول الشاعر ﻣﻌﺎﺫ حميد ﺍﻟﺴﻤﻌﻲ، وهو شاعر يمني ومقيم في اليمن، ويبدو أن وجهة نظر حكمت الحاج جديرة بالنقاش، وبموضوع مستقل.. سنلاحظ أن العديد من شعراء وشواعر بعض بلداننا المنكوبة بالحروب والصراعات قد يهملون الجغرافيا، وكأنهم يريدون القول نستطيع أن نحلق في مدن السلام ونعشق هنا، ومنهم من يذهب إلى عوالم أشد خرابًا وظلمة، بحيث لا نرى أي شيء من ملامح الحياة أو الموت في نصوصهم، وكأنهم أصبحوا في عالم آخر غير عالمنا هذا..
لنعود إلى تجربة الشاعر معاذ السمعي، وأود أن نتوقف ونعيد قراءة هذا النص:
بحذاءٍ مَخلوعْ..
ترسمُ قَمراً منَ الوَحشَةِ
وتَدُسُّ أحلامَ المَساميرِ في أقدامِ العابِرينْ .
ـ أناملٌ ومُعجزات..!
تعجن سمرتها
بألوان الحُقول المحنطةِ في ذاكِرةِ الطواحينْ..
سِيركٌ وقِيامَة..!
ـ أشجارٌ منَ الطّينْ
وعصافيرٌ مِن الرَّمادْ..
ـ مدنٌ من الكبريت
وقبائلُ منَ الفَحم..
ـ جُزرٌ مأْهولةٌ بالضَّجيجِ
وأخرَى
مَشلولةٌ بالصَّمتِ
تَسبحُ في نسيجٍ باهتٍ من الألوانِ والقَصائدْ..
ـ ساحاتٌ للحُريَّةِ
وأسواقٌ للنَّخاسَةِ،
للموتِ
للحُزنِ
وكَشكٌ وحيدٌ للفَرحْ ..
ـ جَبهاتٌ مَنسيَّةٌ على خُطوطِ النّارِ
ومَلَاهٍ مَفتوحةٌ للْمَوتى..
ـ ساقُ سيجارةٍ شائخَةٍ
يَتقاسمُها الـصِّبْيانُ
علَى نصٍّ عائدٍ منْ جُرحٍ قديمْ..
سَنابلُ مُفخَّخة..
ـ أربعُ أصابع منَ الشَّمعِ
تَحمِلُ النَّهارَ مِثلَ قوائمِ النُّعوشِ
وواحدةْ..
هيَ كلُّ ما يُعجبني..
ء على يدي..
لا شيْءَ أَكثرَ
منَ استِقامَتِها الوُسْطى،
تقولُ كلَّ شيء..
دَفعةً واحدِة ..
هذا النص، يتدفق بالعديد من الجماليات، يصور معاذ عوالم متفرقة، متعددة ويرسم هذه الأكوان بمواد خاصة قد تقترب وقد تبتعد من الشيء وأصله، أو الشيء بعد نهايته، وربما يذهب أبعد من ذلك بتباعد الرمز ومدلوله وكأنه من فئة الشعراء الذين يميلون إلى زرع الكثير من الفراغات، وحتى البداية وكأن ثمة حذفًا ونقصًا وقطعًا متعمدًا، فعل (ترسمُ) قد يوحي أنها الحبيبة أو أنثى وربما طفلة، وسنجد بعض مواصفاتها (تعجن سمرتها)، بعض الملامح الفيزيائية تساعدنا في تخيل هذه الشخصية، ولكن علينا ربما أن نعود إلى البداية بالنص (بحذاءٍ مَخلوعْ..) ثمة نقاط وصفة مخلوع قد تعني غير قابل أصلاً للاستخدام، أي هذا الشيء يصبح دلالة قد يتخيل أحدهم أنه حذاء الحبيبة أو حتى الطفلة التي لم يعد لها قدم أو ساق، وقد تكون قدمها أكلتها الحرب، أي قذيفة أو لغم وما أكثر عناصر ومسببات الموت في بلد تلتهمه صراعات لا تنتهي.
لو عدنا إلى الصورة التي رسمتها بطلة النص ( ترسمُ قَمرًا منَ الوَحشَةِ) وربما لأن القمر الجميل الذي كان الناس يغنون له ويرقصون على أضوائه لم يعد يظهر، أو هم فقدوا النظر وربما بواقعية ودون تضخيم فقدوا الرؤوس، في خضم هذه المناخات والطقوس فالوحشة سمة سماوية وليست فقط خاصية القمر المرسوم.
ﻣﻌﺎﺫ ﺍﻟﺴﻤﻌﻲ والعديد من الأصوات الشعرية اليمنية بالداخل والخارج في بعض نصوصهم سنجد تجاوزًا لما يمكن أن نسميه اليمننة، أي المأساة اليمنية، وهذا يعود إلى أن هذه التراجيديا التي لم تنتهِ فصولها تجاوزت سقف الألم الذاتي، والشعب اليمني وهي أعلى من مجرد تراجيديا شعب محصور في جغرافيا محدودة وتعلو أكثر لتكن من المآسي الإنسانية والتي يمكن أن يكتب عنها أي إنسان في هذا الكون حتى وإن لم يكن يمنيًّا، مثال لذلك فالفنان التشكيلي الأرجنتيني وهو لم يزر هذا البلد فقد رسم لوحة ساحرة لأم تحتضن بقايا هيكل عظمي لطفلة حية، وبالتأكيد توجد نماذج كثيرة، وهذا الموضوع يحتاج لدراسة خاصة… إذن يقدم معاذ رؤيته وكأنه يحاول نسيان وتناسي هذا الواقع..
ثمة أحلام ثائرة ورغبات لخلق مزيد من الأحلام، مصير هذه الأحلام وأصحابها هي المزيد من الألم، الحدود والمسامير، الأقدام الحافية، أو حتى التي تلبس الأحذية الفولاذية، فالمسامير والألغام و..و..، نصل للحظة توقف ومراجعة وأسئلة (سِيركٌ وقِيامَة..!) وكأن الشاعر يصاب بالخرص، يفقد الكلام والحروف والكلمات ويسأل، كأنه يقول حتى نستطيع العيش علينا أن نتقن مهارة المهرجين المهرة في القفز والتشقلب، أو نكون سحرة وخارقين، أو نحن وببساطة نعيش أهوال يوم القيامة بصخبها وعظمتها وفجائعها، ولأننا مجرد بشر، كانوا يعيشون كبشر بكل الأخطاء التي يمكن أن يرتكبها البشر، ولسنا ملائكة، ولا أنبياء، إذن ستلفح وجوهنا النار، ويُحرق القار أقدامنا، كما يحدث هنا، أي الآن.
قد تتجاوز رؤيتي لهذا النص وتكون خارج شواطئ النص، ويمكنكم أن تعتبرونها رؤية دراماتورج أو سينمائي، وربما أن بعض هذه الأفكار لم تخطر في ذهن الشاعر، وقد يرى بعضها غريبة، دعونا نتمادى أكثر، وطالما أن الشاعر طرح نصه للتلقي فعليه أن يفتح صدره لكل الرؤى.
منصات النص الخارجية وكواليسه متعددة مما يجعله خصبًا وعجينة لينة للمعالجات، الفنية ونلاحظ أن العديد من الأصوات الإبداعية اليمنية أصبحت تنتج وتخلق نصوصًا متعددة التأويلات وكأنها تغترف من اللا وعي، وربما يكون هذا أيضًا بحاجة للدراسة، ورغم أننا لم نصل لنهاية للحرب، ونتمنى ذلك.. بالتأكيد لفهم كل ما حدث من الطبيعي الرجوع إلى الإبداعات الأدبية والفنية.
لنعد للنص، نجد ما يشبه التقسيمات المشهدية، تصوير المشهد من عدة زوايا متباعدة والبعد عن التشبيهات والولوج في خلق لوحات بعضها مفجع، وبعضها يحتاج لتأمل أكثر، هنا ( أشجارٌ منَ الطّينْ) هو لم يقل أشجار من طين وربما (ال) التعريفية، قد تكون طبقة تحتاج إلى نحت للوصول لماهية الصورة، ربما ما حوله من بشر قد تجمدوا وتخشبوا، فأصبحوا كالأشجار ولو نحتنا الشكل سنكتشف المفاجأة، يمضي ليزج بنا بلقطة أخرى (وعصافير مِن الرَّمادْ.) وقد لا يعني تحول العصافير إلى رماد، وقد نذهب إلى أن أغاني وأناشيد هؤلاء البشر وأصواتهم وحتى همساتهم أضحت الرماد ذاته بكل عدميته.
وهكذا يمضي بنا النص من عوالم مفتوحة كالحقول والشجر والعصافير إلى عوالم مغلقة وضيقة (مدنٌ من الكبريت) و(قبائلُ منَ الفَحم)، وكأنه يُذكرنا أن تلك المدن كانت مفتوحة، وتحلّق، ويُذكر اسمها، ولكن الآن لم يعد يذكرها القريب ولا البعيد ولا أهلها، هي أي المدن ضيقة، أهلها من الفحم، ثم ضجيج يحتل الجزر ويصيب الصمت جزرًا بالشلل وكأنه هنا يوصد البحر وهو المتنفس الوحيد للهروب من الضياع، ولكن حتى هذا المنفذ فثمة كوارث تعصف به وكأن لا نجاة من الموت.
صور الموت متعددة وتسبقه بمسافات في النص ثم نراه كأنه يبتلع كل شيء القسوة والطيبة، الحرية والاستبداد، كل الساحات وكل شيء سينفتح للموتى وللذين لم يموتوا بعد، لا تزال أسباب ونوافذ وأبواب الموت متعددة وكثيرة، وبعضها ربما يكون مغريًا ولطيفًا (ساقُ سيجارةٍ شائخَةٍ) (سَنابلُ مُفخَّخة)، وهنا يمكننا أن نربط بين الصورتين، وهو لم يقل ساق سيجارة ملوثة أو فاسدة، ولأن هذا المناخ مشحون بالسموم فكل شيء سيحمل بعض الموت، في بلاد الحرب لم تعد الأرض مانحة الحياة ولا حتى السماء.
يختم معاذ نصه، ولا ينهيه، وكأنه لا يعرف النهاية ولا البداية
ـ أربعُ أصابع منَ الشَّمعِ
تَحمِلُ النَّهارَ مِثلَ قوائمِ النُّعوشِ
وواحدةْ..
هيَ كلُّ ما يُعجبني..
ـ على يدي..
لا شيْءَ أَكثرَ
منَ استِقامَتِها الوُسْطى،
تقولُ كلَّ شيء..
دَفعةً واحدِة..
صورة تحمل دهشة جنونية، فالشمع يمنح النهار أربع أصابع، في نهارات كثيرة ومدن كثيرة لم يعرف الناس النهار من الليل، عمت ولا تزال تعم الفوضى الكثير من مدننا، نفقد الزمن وبكل بساطة الحياة..
نستنتج إذن أن العديد من الأصوات الإبداعية في أوطاننا المنكوبة بالحروب والدمار منهم من يتجاوز المحلية والجغرافيا وحتى البكاء واستدرار التعاطف ويخلقون سموات ألمهم وجحيمهم بصفة إنسانية مفتوحة بعيدًا عن خصخصة المأساة، هنا تصبح النصوص ذات شواطئ بمساحات لا نهائية وبعبق إنساني قابل للقراءة اليوم وغدًا.
* مخرج سينمائي وكاتب يمني مقيم في فرنسا
تعليقات