بلقيس محمد علوان*
قد يعتبر البعض الحديث عن الإحصائيات الحيوية في اليمن في ظرف الحرب، وما أسفرت عنه من تراجعٍ وتدنٍّ في المؤشرات السكانية، حدثيًا في التوقيت غير المناسب، لكنه في حقيقة الأمر حديثٌ لا مفر منه.
تعتبر الإحصاءات الحيوية من الإحصاءات الضرورية نظرًا لأنها تستخدم في العديد من الأغراض، والتي منها على سبيل المثال لا الحصر: التقديرات السكانية التي تستند أساسًا إلى أعداد المواليد والوفيات، كما تشمل عقود الزواج وعدد حالات الطلاق إلى جانب حجم الهجرة الصافية، والتي تعني الفرق بين عدد المهاجرين من مكان ما والمهاجرين إليه خلال السنة، وتعتبر هذه الإحصاءات مكملاً للإحصاءات والمسوح التي تجريها الأجهزة الإحصائية المختلفة، والتي كثيرًا ما تستخدم لحساب العديد من المؤشرات السكانية، وتخدم الإحصاءات الحيوية العديد من مستخدمي البيانات، حيث إنها على قدر كبير من الأهمية لتبرير الاحتياجات التي يفترض أن تقوم الحكومات بتوفيرها، وبلا شك يمثل وجود سجل وطني للإحصاءات الحيوية أهمية كبيرة ليس فقط للحكومات وإنما للمواطنين أيضًا، فوجود هذا السجل يتيح للمواطن الحصول على الإثبات القانوني لهويته سواء البطاقة الشخصية أو جواز السفر، كما يتيح المعلومات الدقيقة حول الخصائص السكانية والتركيب النوعي والعمري والحالة الاجتماعية للسكان، وتشكل البيانات المختلفة في الإحصاءات الحيوية الأدوات الضرورية للتحليل الديموغرافي اللازم لعمليات التخطيط الصحي والاقتصادي والاجتماعي والخدمي، والتي تشمل أيضًا اتجاهات النمو السكاني، وعلى توفر هذه الإحصاءات يتم تحديث البيانات المختلفة خلال فترات توقف التعدادات السكانية، ولا تتوقف أهمية هذه الإحصائيات على حاجة الدولة والمواطنين لها للاعتماد عليها، ولكن أيضا لها أهمية بالغة في مجال البحث العلمي وطرق سحب العينات للدراسات المختلفة التطبيقية أو الإنسانية.
بالنظر إلى حالة اليمن، فإن آخر تعداد سكاني أجري في عام 2004، وأجريت بعده العديد من المسوحات في مجالات الصحة والتعليم وغيرها، ومنذ قيام الحرب لم يعد من إحصاء إلا إحصاء أعداد من يفقدون حياتهم، وحتى هذه لا يمكن الجزم بها على وجه الدقة. أما عملية التسجيل لحالات المواليد والوفيات وحالات الزواج والطلاق في الريف الذي يسكنه حوالي 75% من سكان اليمن فلا أرقام مؤكدة عنها، ومع حركة النزوح والهجرة الداخلية والخارجية تصبح هذه الإحصائيات ناقصة بشكل لا يمكن الاعتماد عليه، فلم نصل أساسًا حتى قبل الحرب لسجل مدني دقيق، ففي داخل الأسرة الواحدة إن كان كل أفرادها يحملون البطاقة الشخصية أو جوازات سفر سنجد اختلافًا في أسمائهم الكاملة، فمنهم من يحمل لقب المنطقة التي ينتمي إليها، ومنهم من يحمل لقب العائلة، كما أن تواريخ الميلاد هي تقديرية في حالات كثيرة.
والسجل المدني هو عبارة عن قائمة بالبيانات الأساسية لجميع المواطنين تشمل (الاسم، الجنس، الجنسية، العمر، الحالة الاجتماعية، والعنوان)، ويكون هذا السجل لدى الحكومة، وهو عادة ما يكون إجباريًّا، ويطلب من المواطنين التبليغ عن أي تغيير في هذه البيانات لدى الجهات المسؤولة عن هذه القائمة وعادة ما تكون وزارة الداخلية، وعادة ما يقوم الجهاز المركزي للإحصاء بنشر بيانات الإحصاءات الحيوية سنويًّا في كتاب الإحصاء السنوي، ولكن بالنسبة لبلادنا فآخر كتاب إحصاء متاح على موقع الجهاز المركزي للإحصاء يرجع لعام 2017، وفي الأحوال العادية تقوم الحكومات التي لديها سجلات مدنية دقيقة باستخدام هذه السجلات لاستحداث وتحديث قائمة الناخبين، والنتيجة هي أن أي مواطن مؤهل للتصويت يعتبر إدراج اسمه في سجل الانتخابات مضمونًا طالما أن اسمه مدرج في السجل المدني، لكن مع عدم إجراء التعداد السكاني في اليمن الذي كان من المفترض أن يجرى في العام 2014، ومع توقف إجراء المسوحات المختلفة وخصوصًا في مجال الصحة والتعليم، وتوقف كل خطط التنمية منذ بدء الحرب في اليمن أصبح الأمر أكثر ضبابية ولا توجد أي معلومة مؤكدة على وجه الدقة، لكن المؤكد أن المؤشرات السكانية في الصحة والتعليم تراجعت بشكل كارثي، كما انهارت العديد من المكاسب والتحسن الطفيف في العديد من المعدلات مثل معدل وفيات الأطفال والأمهات، وكذا معدل النمو السكاني الذي يبدو أنه عاد للزيادة، وهذا توقع لا يستند لأي أرقام، ولكن يستند للمشاهدة العادية، ومع الحرب أيضًا زاد معدل البطالة، وزاد أكثر عدد الأشخاص المعالين لكل شخص معيل، ومن المتوقع أن المغتربين اليمنيين في كل دول هجرتهم تضاعفت أعداد من يعولون بشكل كبير، وبالتأكيد فإن أعداد المعاقين قد زاد، يشهد بذلك ضحايا الألغام وهم بالآلاف، وضحايا الحرب وهم بعشرات الآلاف، فوفقًا لتقرير للمركز الأميركي للعدالة بعنوان “الألغام: القاتل الأعمى”، الذي يرصد ويوثق حالات القتل والإصابة وتدمير الممتلكات في اليمن، فإنه منذ يونيو 2014 إلى فبراير 2022، قتل نحو 2526 من المدنيين، منهم 429 طفلاً، و217 امرأة، كما أصيب 3 آلاف و286 آخرين، منهم 723 طفلاً، و220 امرأة في عدد 17 محافظة يمنية، وقد تعرض 75% من ضحايا الألغام للإعاقة الدائمة أو التشويه الملازم لهم طيلة حياتهم، ومن المؤسف أن ما هو موثق وأقرب للحقيقة لدينا مؤخرًا من إحصائيات هي لأعداد القتلى والجرحى وضحايا الألغام.
تبدو مهمات ما بعد الحرب كثيرة، وعلى رأسها توفير قاعدة بيانات دقيقة يعتمد عليها، وإجراء تعداد سكاني شامل للمساكن والسكان يوفر للدولة المعطيات التي ستبنى عليها خطط الإعمار والتنمية، فبدون إحصاءات حيوية، وتعداد سكاني تمر الكثير من التجاوزات، وبدونها أيضًا لا يمكن أن يكون هناك تخطيط حقيقي، وهو ما يتطلب استكمال البناء التنظيمي والمؤسسي للجهات المسؤولة عن توفير الإحصاءات الحيوية وإجراء التعداد السكاني، ومن الأرقام والإحصاءات تكون البداية.
* أكاديمية وكاتبة يمنية
تعليقات