وجدي الأهدل*
التهمتُ بشغف كتاب “الآتي من بلاد الشمس إلى مدن الصقيع” لصديقي العزيز علي هائل القدسي، الذي يحوي قصصًا باذخة الجمال، مكتوبة بأسلوب سلس ومشوق:
“الهندول، غرام الحمير، أربع درجات على مقياس ريختر، طشقند العزيزة، السعداء لا يوجد لديهم ساعة، عندما مات الزمار، الآتي من بلاد الشمس إلى مدن الصقيع، فتاة القطار، مياسة بالروسية، حب في مسرح البلشوي تياتر، قهوة يمنية في حفلة شواء روسية، البن من ميناء عدن، تخمة ثقافة وتخمة بدانة”.
معظم قصص الكتاب تدور أحداثها في مدينة طشقند عاصمة أوزبكستان، عن طالب يمني مبتعث للدراسة في الاتحاد السوفييتي، وتقريبًا كان وصوله للدراسة في عام 1983، ونجد فيها وصفًا جيدًا للأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في ذلك الصقع المحجوب عن العالم بستار حديدي، وهي مادة ثمينة، ينقلها لنا حية شاهد عيان، ويترك لنا الحكم عليها دون تدخل منه، بالمدح أو الذم، وهي ميزة تُحسب للكاتب، ويحمدها له القارئ:
“رحلة على قطار الثامنة الرسمي يتحرك بالنشيد الوطني السوفيتي، الوجهة سيمفروبل-شبه جزيرة القرم-خاركوف- أوكرانيا-باكو-أذربيجان”ص123.
“بدأت بتجهيز نفسي لكي احتفل مع أصدقائي بطريقتنا الخاصة. خرجنا عن المألوف ولم نحتفل كما يحتفل السوفيت بطريقتهم التقليدية الرتيبة؛ يجلسون متسمرين أمام شاشة التلفزيون في انتظار كلمة رئيس مجلس السوفيت الأعلى “يوري أندربوف” آنذاك، يتابعون فقط احتفالات رأس السنة في عاصمة الاتحاد السوفيتي “موسكو” بسبب المركزية المفرطة”ص59.
يتقن المؤلف رسم الشخصيات، بل يتفنن في تجسيدها حتى نكاد نراها ونشم روائحها، مثل الطالبة الأجنبية التي جاءت من الغرب للدراسة في الاتحاد السوفييتي، وتعرف عليها بطل القصص في القطار، ولم يسمها، واكتفى بالإشارة إليها بـ”فتاة القطار”، وبائعة الأرانب الأوزبكية، وفقيه القرية “الخوجة”، ولعل الشخصية الأكثر طرافة في الكتاب هي شخصية الحمار الكسول البطيء الحركة، وكيف صار نشيطًا أسرع من حصان بعد أن لقح أتانًا!
تميز المؤلف بالشجاعة في تعرية بطل قصصه وكشف سلبياته، وهي استراتيجية صحيحة لبناء الشخصية، إذ لا يوجد إنسان كامل، فالكمال لله وحده:
“حمام بخاري ومساج بأيدي ملائكة الرحمة، فتيات جميلات يشبهن فتيات طشقند من أنقذن حياتي بعد سقوطي على الجليد، تعافيت سريعا ولكني لم أفصح عن ذلك لكي لا أفقد العناية المركزة، الدفء والحنان، والحميمية. عندما اكتشفن الخطوط الغائرة “الجروح، مياسيم مخلفات سنانير حكيم القرية” سألنني عنها أجبت أنها شظايا من معارك الدفاع عن حياض الوطن، خدمة الدفاع الوطني، لم أفضح نفسي، ندمت بعدها لأنهن صدقن الكذبة واعتبرنني بطلًا”ص121.
الكتاب ككل متميز للغاية، وجدير بالقراءة حتى آخر ورقة، ولعل قارئًا قد يقول في نفسه ليته زادنا من هذا السرد النفيس.
ونأتي للملاحظات، وهي لا تقلل من شأن العمل، ولا من الجهد الذي بذله كاتبه، وإنما هي بغرض إثارة المزيد من النقاش حول العمل وشد عزائم القراء للبحث عنه ومطالعته.
والملاحظة الأولى تتعلق بتصنيف الكتاب كمجموعة قصصية.. وهذا الذي ذهب إليه المؤلف في غلاف الكتاب، إلا أننا بعد الانتهاء من قراءة القصص، نرجح أنها أقرب للسيرة الذاتية.
والفارق بين النوعين (القصة القصيرة – السيرة الذاتية) كالفارق بين المشرق والمغرب، وهذه المسافة الشاسعة بينهما تترتب عليها نتائج فنية حاسمة.
فمن الناحية النقدية يمكن أن يحاسب المؤلف حسابًا عسيرًا إذا ما أصر على تصنيف قصصه ضمن فن القصة القصيرة، وقد تتناوشه سهام النقد من نواحٍ لم يحسب لها حسابًا، وأول باب قد يدخل منه الناقد بمطرقته هو أن القصص ليست خيالية، وإنما تمتح من تجارب ذاتية، بما يدنيها من تهمة التقريرية.
وثمة عناصر أخرى تتعلق بفن القصة القصيرة ليست تامة الحضور في قصص المؤلف، وهذا مفهوم نظرًا لأن الراوي هو الذي يقود السرد في جميع القصص، وهذه القيادة السردية لبطل واحد في كل القصص تُغيّر قواعد اللعبة، وتجعلنا لا نتفق مع المؤلف أنها مجموعة قصصية.
تعريف القصة القصيرة:
“القصة نوع من السرد النثري التخييلي القصير والبسيط مقارنة بالرواية. ويعتمد بناء القصة على اقتصار شديد في عدد الشخصيات والأحداث والأماكن والزمن وعلى تكثيف السرد، فالقصة تهدف عادة إلى تحقيق أثرٍ واحد يصدر عن حدث مميز أو بضعة أحداث أو مَشاهد. والشخصية في القصة لا تكون متكاملة الأبعاد كما في الرواية أو المسرحية، بل يتكشف جانب منها أو أكثر من خلال الفعل الدرامي الذي تقوم به، أو برد فعلها على الحدث الذي تواجهه”(الموسوعة العربية).
لكن كان يمكن للمؤلف أن لا يؤاخذ من الناحية الفنية إذا هو صَنَّف كتابه ضمن نوع السيرة الذاتية.
ففي هذه الحالة، لن يكون مطالبًا بالتخييل كعنصر جوهري للسرد، ولن يتهم بالتقريرية، ولا بانتهاك قواعد القصة القصيرة، لأنه يكتب سيرة ذاتية عن نفسه، ومن الطبيعي أن يكون صاحب السيرة هو البطل في كل القصص، أو الفصول إذا تحرينا الدقة، وأن يكون هو المركز، وكل الشخصيات تدور في فلكه، وأن يكون هو القائد الذي يقود دفة السرد.
لقد قرأنا أعمالًا عظيمة في باب السيرة الذاتية، بل تكاد تكون من أعظم الآثار الأدبية التي خلفها عباقرة الأدب، مثل “تقرير إلى غريكو” لنيكوس كزانتزاكي، و”اعترف بأنني قد عشت” لبابلو نيرودا، و”عشت لأروي” لغابرييل غارسيا ماركيز، و”داغستان بلدي” لرسول حمزاتوف، و”تقشير البصلة” لغونتر غراس، وآلاف غيرها من كتب السيرة الذاتية التي أمتعت وألهمت الملايين من القراء.
تعريف السيرة الذاتية:
“الترجمة الذاتية أو السيرة الذاتية أو البيوغرافيا الذاتية (من اللاتينية: autobiographia أوتوبيوغرافيا) هي من أنواع الكتابة الأدبية، وتعني فن سرد الشخص لسيرة حياته أو جزء منها، ويصعب تحديد تعريف معين لهذا النوع الأدبي، لكونه أكثر مرونةً من الأنواع الأخرى وأقل وضوحاً، فهي إما أن تتراوح ما بين سرد لأجزاء من حياة الشخص، أو عرض ليومياته، أو اعترافات شخصية، كأن يعترف الكاتب بالأخطاء التي ارتكبها في مرحلة ما من حياته”(ويكيبيديا).
قبل مدة قرأت كتابًا لصديق (عزيز) هو سيرة ذاتية عن نفسه، لكنه في خطوة مفاجئة صنفه في باب الرواية! وما فهمته أنه يريد التملص من بعض ما جاء في الكتاب من اعترافات، فيدرجها ضمن الخيال الروائي، الذي لن يُحاسب عليه كما هو دارج، إلا أنه يضع عمله تحت مجهر النقد، ولابد للنقاد من تطبيق معايير الفن الروائي على العمل، وحينئذٍ لا مناص من نقد لاذع، وظهور ثغرات تقلل من قيمة العمل وتبخسه حقه، وأن ينظر إليه خبراء الأدب كعمل لا يشكل إضافة فنية، وإنما مجرد إسهام يشكر عليه في رصيد الرواية اليمنية.
هل أراد مؤلف “الآتي من بلاد الشمس إلى مدن الصقيع” عمل مسافة تفصله عن بطل الكتاب؟ التواري خلف تصنيف الكتاب كمجموعة قصصية لينجو من أية تبعات محتملة؟ رغم أن الكتاب يحوي النزر اليسير من الاعترافات، وأغلبها جاء على صورة تلميحات، فإن هذا الاحتمال يبدو هو الأقرب إلى الصحة.
تهرب الكُتَّاب اليمنيين من وضع يومياتهم في خانة السيرة الذاتية، وإلباسها لباس أنواع أدبية أخرى، يدلل على سطوة العادات والتقاليد في المجتمع اليمني، وأن هذا النوع الأدبي سيظل منبوذًا وغير مرغوب فيه إلى أمد غير معلوم.
*روائي وكاتب يمني.
تعليقات