جيمس زغبي
رئيس المعهد الأميركي العربي- واشنطن
أقر دونالد ترامب يوم السابع من يناير الجاري بأنه سيغادر البيت الأبيض يوم 20 يناير ووعد بـ«انتقال سلس للسلطة» بعد شهرين من الإنكار والاتهامات الباطلة بالتزوير. ولا يمكن أن يكون هذا نهاية القصة، على الرغم مما حظي به وعد ترامب من ترحيب لدى البعض. فيتعين أن تكون هناك مساءلة عما حدث لما نعتبره الآن ديمقراطيتنا الهشة. وهنا أشير إلى توضيح قدمه لي واحد من فلاسفتي المفضلين، جاكوب برونفسكي، عن مصطلح «الأبوية». برونوفسكي يرى أن الأبوية تتجاوز سؤال: من أب الطفل؟ وحين ننظر إلى ما نواجهه يوميا من عواقب الظلم والفقر والعنف، فهذا يدعونا لطرح السؤال التالي «من هو المسؤول عن هذا؟» ويرى «برونوفسكي» أن قبول الأبوة عن الشر الذي اقترفناه ضروري لبناء مجتمع أخلاقي.
وفي الأعقاب الآنية للأحداث الكابوسية التي شهدتها واشنطن في السادس من يناير، فكرت في الدرس الذي قدمه «برونوفسكي». فحصار المشاغبين لمقر الكونجرس وتدمير النوافذ واقتحام قاعتي النواب والشيوخ وتخريب المكاتب، لم يحدث من تلقاء نفسه. بل هناك أب له. فقد حثهم رئيس الولايات المتحدة على القدوم إلى واشنطن، وبمجرد وصولهم إلى هناك حرضهم بخطاب تهييجي وطلب منهم حرفياً الزحف إلى مقر الكونجرس. لكن أبوة هذا التدمير لا تتوقف عند ترامب وحده.
لقد شهدنا عناصر هذه المأساة تتكشف منذ سنوات مع تدليل ترامب لجماعات الجناح اليمني المتطرفة. وأذكى ترامب مظالمهم من خلال كراهية جماعات الأقلية والمهاجرين والقضاء والإعلام و«الديمقراطيين»، وأي طرف رأى أنه يقف في طريقه. وأروى تعطشهم لنظريات المؤامرة بواقع بديل عن مدى تجاهل نجاحاته الكثيرة. وأصر على أنه دائما يفوز بزعم ضخامة الحشود التي تلتف حوله واندحار الجائحة، وأن أميركا أكثر سلامة وأعظم من أي وقت مضى، وأنه فاز بالانتخابات بفارق كبير. لكن أعداءه لا يعترفون بهذا ويبذلون كل ما في وسعهم لوقف تقدمه. ولذا يتعين اتخاذ إجراء. لقد كان يعلم أن هناك أفراداً على صلة بجماعات القوميين البيض والجماعات المسلحة وجماعة «كيو أنون» استجابت لدعوته للاحتشاد في واشنطن. وكان يعلم أنهم سيقدمون على أعمال تخريب. لكنه ظل مصراً على موقفه. ولذا فترامب هو الأب لما حدث. لكن لا يمكن إلقاء مسؤولية كل ما حدث على عاتقه وحده.
لقد كان لديه داعمون لمزاعمه، وربما صدق البعض وجهة نظره، لكن كثيرين آخرين تصرفوا بناء على حساب سياسي فج مفاده أن محاباة أنصار الرئيس المخلصين قد يمثل حجة لأن يصبحوا ورثته السياسيين. فهناك أكثر من 100 عضو «جمهوري» في الكونجرس أيدوا شكوى ترامب بأن الانتخابات شابها التزوير وتعهدوا بأن يحولوا جلسة التصديق على النتيجة في الكونجرس في السادس من يناير إلى قتال محتدم. وسكب مضيفو البرامج الحوارية في الراديو وفي «فوكس نيوز» الوقود على النار بتكرارهم كل نظرية مؤامرة واتهامات التزوير الباطلة، التي رفضتها المحاكم بالفعل عبر البلاد. وهناك أقرب المقربين للرئيس، بدءا بنائبه مايك بنس والوزراء وصولاً إلى الموالين له من فريق العمل في البيت الأبيض. وهؤلاء يتحملون «أبوة» ما حدث في السادس من يناير. فعلى مدار سنوات، رأوا ما يكفي من الأدلة على الخطر القادم. وكانت هناك علامات تحذير تتضح في مجرد الانصات لتحريض ترامب ضد خصومه في اجتماعاته الانتخابية.
وربما كان هناك مؤمنون صادقون في حاشية ترامب، من بينهم بعض زعماء الحزب «الجمهوري» في الكونجرس، لكن معظمهم أبرموا «صفقة فاوستية». لقد كانوا محافظين في قلوبهم ولم يثقوا بالرجل، لكن ما داموا يتمتعون بتقليص الضرائب واللوائح ويحصلون على القضاة «المحافظين» الذين يريدون، كانوا مستعدين لالتزام الصمت. لكن المزعج بشدة هو أنه بعد الدمار الذي حدث نتيجة صمتهم، عبر هؤلاء الصامتون عن حالة رعب. فبعد مشاهد اقتحام مقر الكونجرس، أصدر أعضاء «جمهوريون» في الكونجرس بيانات أدانوا فيها العنف. واستقال أعضاء من فريق إدارة ترامب. وحتى الرئيس نفسه سعى، في تعليقاته في السابع من يناير، لأن ينأى بنفسه عن الذين وصفهم بالبلطجية ودعا إلى اعتقالهم ومحاكمتهم.
لكن هذا لا يمكن أن يكون نهاية القصة لسببين. فأولا، لا تكفي معاقبة المخربين. فالذين أوقدوا النيران وأذكوها وسكبوا الوقود عليها يجب عليهم تقبل المسؤولية. ودون مساءلة، ستصبح هناك حصانة تهدد حياة ديمقراطيتنا نفسها. وثانيا، من الضروري فهم أن الضرر الدائم قد وقع. وقد يعتقد أعضاء من الكونجرس وآخرون أنهم في حل من المسؤولية بسبب «الهدى»، الذي وجدوه في الآونة الأخيرة. لكن هناك في الواقع ملايين الاتباع من الجماعات المسلحة والمتشددة مازالوا لا يشعرون بندم بل يشعرون الآن بكرب أكبر. ولن يختفي هؤلاء بسهولة. فقد ثار غضب جماعات القوميين البيض والجماعات المسلحة وجماعات اليمين المتطرف لما يرون أنه إهانة لزعيمهم وسيظلون يمثلون تحديا للبلاد.
ولا يمكن الادعاء بأن الأزمة قد انتهت الآن أو الاعتقاد بأن الطريق إلى الأمام يمكن العثور عليه بتوجيه الاتهام للرئيس أو استخدام التعديل الخامس والعشرين في الدستور لإزاحته من السلطة. فهذا لن يجدي. فهناك أسباب لما حدث في السادس من يناير. وهناك أكثر من شخص مسؤول عنه. ولفهم جذور هذه الأزمة يتعين على الرئيس بايدن والكونجرس تشكيل لجنة قومية، مثل «لجنة كيرنر» التي تشكلت لفهم جذور الاضطرابات المدنية في ستينيات القرن الماضي. فلن نستطيع تقييم «الأبوة» وتصحيح المسار المطلوب للمضي قدما إلا بالفحص الكامل لما أدى بنا إلى هذه الحالة المأساوية.
تعليقات