وجدي الأهدل*
ربما لا يخطر ببال كثيرين أن شعب الإنويت (inuit) أو الإسكيمو الذي يعيش على حواف القطب المتجمد الشمالي، يتملك ثقافة روحية عميقة، وفلسفته الخاصة عن الكون والحياة.
فمعظم معلوماتنا عن هذا الشعب – المكافح ببطولة خارقة ليستمر في البقاء – مستقاة من الأفلام العلمية الجافة، أو عبر نتف من الأخبار المشوهة التي يجدها القارئ في صفحات المنوعات المخصصة لرصد الطرائف والغرائب.
وهذه المجلات الخفيفة، وتلك التغطيات التلفزيونية السطحية، كونت صورة نمطية في أذهان الناس تكاد لا تمحى عن شعب الإسكيمو، تبدأ من تصنيفه في خانة الشعوب البدائية، ومرورًا بالنظر إليه كمجموعة بشرية مثيرة للرثاء والشفقة، وانتهاءً باعتباره هدفًا للتسلية ومادة للترفيه عن المشاهد أو القارئ.
ولكن من منا تساءل عن تراث شعب الإنويت ومعتقداته؟ عن الجانب الروحي الأصيل لديهم؟ إن واحدة من أعظم كوارث عصرنا هي تلك العقيدة التي ترسخت في نفوسنا بأن وسائل الإعلام وحدها كافية لأنْ تمدنا بالمعرفة. لكن هذه الغزارة الهائلة في الصحف والمجلات والقنوات الفضائية، تثبت يومًا بعد يوم فشلها الذريع في تثقيفنا، وتصحيح الصور المغلوطة في أذهاننا عن الأشياء والمجموعات البشرية المختلفة عنا. متى تصبح وسائل الإعلام أداة للفهم وليس للتسلية فقط؟ يبدو هذا السؤال خارجًا عن السياق، وغير مُفكّر به أصلًا.
استشهدت بالإنويت كحالة نموذجية تنم عن ارتكازنا على تصورات شائعة ضحلة، تحصر الآخر في زاوية صلاحيته مادة للفرجة وليس أكثر.
في عام 1923 عاش الباحث الدانمركي (كنود راسموزين) عامًا كاملًا مع الإنويت النتسيليك بالمناطق القطبية بكندا، وهي واحدة من أقسى مناطق العالم مناخًا، حيث تهب عواصف الشتاء العاتية من سبتمبر حتى يونيو، في درجة حرارة تصل إلى الخمسين تحت الصفر، وقام بجمع نصوص عن عاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم، ثم تفرغ بعد ذلك لدراسة تاريخ وثقافة الإنويت إلى أن توفي في عام 1937.
وقد أصدر (كنود راسموزين) النصوص التي جمعها في كتاب سماه “هذا الكون الذي نعرفه”(1) وفيه إجابات لتساؤلات إنسان الإسكيمو التي تحيره، وهي الأسئلة الأساسية في كل الحضارات البشرية: كيف نشأ الكون؟ ومن أين أتى أول البشر؟ ولماذا ظهر النور بعد أن كان كل شيء في ظلام دائم؟ وما هي النفس؟ وغير ذلك من الأسئلة العميقة المتعلقة بالوجود.
وعلى سبيل المثال يُعطي الإنويت النتسيليك أهمية كبرى للاسم:
“إن النفس هي ما تجعل الإنسان إنسانًا، ولكن اسمه هو ما يجعل منه إنسانًا متفردًا وسط البشر الآخرين، والقوة الخاصة بالاسم يمتلكها كل إنسان له ذلك الاسم، وذلك يجعل للإنسان عددًا كبيرًا من الحراس اللا مرئيين، من الذين سُمّي باسمهم، يحفظونه بعيدًا عن الشر، ويصبحون بالنسبة له أرواحًا حارسة”.
كما أنهم يركزون على جوهر الحياة البشرية، وضرورة توافقها مع العالم الطبيعي الذي تحيا فيه، لأن هذا التوافق بيننا وبين الطبيعة هو أساس الصحة الجسدية والنفسية:
“لكي يكون الرجل صيادًا جيدًا، يجب أن يكون ماهرًا ونشطًا، وقادرًا على أن يخرج للصيد في كل الأجواء، ولكن بجانب المهارة، يجب أن يكون على وفاق مع نفس الحيوان، الذي يخرج لصيده”.
تبدو النصوص بسيطة وساذجة للوهلة الأولى، ولكننا حين نتأملها مليًّا، نكتشف خلف الكلمات المختصرة، غير المنمقة، فلسفة عملية تراكمت عبر أجيال طويلة، وأنتجت رؤية غاية في الخصوصية للوجود، مفارقة لِما عهدناه لدى الشعوب الأخرى.
“نحن نعرف أن أرضنا ليست الأرض بأسرها، لأن الأرض لا حدود لها، فالرجل الذي يريد أن يرحل بعيدًا، يمكنه أن يظل مرتحلًا إلى الأبد، ونعرف أيضًا أن الأرض لم تتغير منذ وقت بعيد، منذ أن بدأ قومنا في التذكر”.
فما أجمل هذه الرؤية الكونية الخالية من الادعاء!
الجدير بالذكر أن هذا الشعب الشديد البأس قد تمكن من صد جميع موجات الغزو التي تعرض لها، ولم تنجح أية قوة غازية في بسط سيطرتها على أرضهم. لذلك هم يطلقون على أنفسهم تسمية (الإنويت) التي تعني بلغتهم الرجال الممتازين. وهم لا يفضلون التسمية المتداولة عالميًّا (الإسكيمو) التي أطلقها عليهم الهنود الحمر ازدراءً لهم، وتعني (الذين يعملون في الخفاء). ولعل الهنود الحمر خطرت ببالهم هذه التسمية بسبب قدرة الإنويت على العيش تحت ليل القطب الشمالي الذي يستمر قرابة ستة أشهر.
إن أطفال الإنويت يتم تعليمهم وتذكيرهم دومًا بهذه الحكمة: “إن الكون مكان خطر”. فيتهيأ الولد والبنت من الإنويت لمواجهة أقسى الشدائد.
يرد على ذهني أن الأرض إذا تعرضت لكارثة شاملة طبيعية أو نووية، فإن المجموعة البشرية الوحيدة التي ستنجو من الانقراض هي شعب الإنويت، ليس فقط بسبب تطرف موقعها الجغرافي، ولكن لقوة التحمل المتوارثة لديهم على مر التاريخ.
————————
هذا الكون الذي نعرفه، كنود راسموزين، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2002.
*روائي وكاتب يمني.
تعليقات