صنعاء/ ميشيغان – “اليمني الأميركي”:
فقدَ اليمنُ برحيل العميد الركن عدنان السيَّاغي واحدًا من قياداته العسكرية التي تمتعت، خلال مسيرتها، بمهارات وصفات وسجايا، أصبح معها رحيله خسارة كبيرة، لا سيما في ظل ما يمرّ به اليمن – حاليًّا – من ظروف يفتقدُ فيها لشخصيات متماهية مع قِيَم الوطن الحقيقية دون أيّ تحيزات تُعكّر صفو تلك القِيم.
عدنان السياغي من مواليد 1959 بمدينة إب، تخرَّج في الكلية الحربية بصنعاء، حاصل على ليسانس شريعة وقانون – جامعة صنعاء، بالإضافة إلى شهادة أركان من كلية القيادة والأركان في الهند، وماجستير من جامعة مداراس الهندية حول “النزاع اليمني السعودي على عسير وتوصيات الحلول”.. كما شارك في عديدٍ من الدورات، منها دورة في جامعة الدفاع الوطني في واشنطن بالولايات المتحدة.. وخلال مسيرة عمله في القوات المسلحة اليمنية تقلّد عدة مناصب عسكرية.
لم يكُن عدنان السياغي شخصية عسكرية متميزة، بل – أيضًا – كان شخصية مدنية تميزت بهدوء الطِّباع وتطلُّع الأحلام نحو مستقبلٍ يمني مشرِق يتحققُ فيه أحلام اليمنيين في حياة كريمة ودولة نظام وقانون.
نحاولُ في هذا التقرير رصد شهادات عددٍ من أصدقائه في صنعاء والولايات المتحدة.. إسهامًا في تأبين أربعينية رحيله:
فارسٌ مقدام
مُحَمّد أحمد الدعيس، مهاجرٌ يمنيّ في الولايات المتحدة، مستشار صحيفة وموقع (اليمني الأميركي):
«كان العميد الركن عدنان السياغي شخصية كاريزمية مميزة تجمعُ بين العسكرية والمدنية، إذ كان قائدًا شجاعًا محنّكًا ومدنيًّا متطلعًا للحياة الكريمة ودولة النظام والقانون.
عدنان السياغي فارسٌ مقدام، يعشقُ الخيل ويُجيد ترويضها، وأيضًا يجمعُ بين حُبّ الأصدقاء وخفة الدم والجدّية، صاحب نكته لاذعة، عميق الرؤية والتفكير، متطلّع، يعشقُ الحياة وجمالها، سافر إلى معظم دول العالم، وغاص في تاريخها وتراثها، يملك قلب فنان كبير.. له تجارب في النحت والخط والرسم وفن التصوير… يمتلكُ مكتبة مميزة ومتحفًا عسكريًّا ومدنيًّا صغيرًا في منزله.. له كثير من الأنشطة والدراسات والكتابات العسكرية والمدنية والتوصيات، وله كتاب في نحو 400 صفحة، لم يصدر، عن سيرة الشيخ عبدالعزيز الحبيشي (رحمه الله)، وتاريخ إب، وما يتعلقُ بها من أحداثٍ من فجر ثورة 26 سبتمبر.
تعرفتُ إليه أول مرة ونحن في الصف الثاني الثانوي بمدرسة النهضة بمدينة إب عام 1977م.. ووجدته شخصية تجذبك وتبهرك من أول لقاء… تطورت صداقتنا خلال فترة خدمة الدفاع الوطني بمدرسة المدرعات، ثم قيادة اللواء السابع مدرع مع منتخب المدرعات لكرة القدم في أول دوري عسكري على مستوى اليمن عام 1979م، ثم انتقلنا بعد ذلك إلى معسكر اللواء الثامن بمنطقة السوادية محافظة البيضاء، وخلال تلك الفترات تكونت عندي صورة كاملة عن شخصية أخي وصديقي عدنان الإنسان الشجاع المِقدام الكريم المرح المثقّف والباحث المجدد المتطلع.. إلخ.
انطلق عدنان إلى الكلية الحربية بعد إكمال سنة خدمة الدفاع الوطني رغم عشقه الكبير للحياة المدنية والسفر والبحث، إلا أنه كان يدركُ بعمق أنّ وضع اليمن في قبضة العسكر، وأنّ فترة بقائهم ستطول، وأنْ لا حياة كريمة ولا مستقبل آمن بعيدًا عن المؤسسة العسكرية.. أبدعَ وتميّز في الكلية الحربية بين زملائه، وعشِق الفروسية وترويض الخيول، وتخرَّج في الكلية الحربية بتقدير جيد جدًّا وكله عنفوان وأمل وتطلّع في أنْ يرتقي ببلده وناسِه إلى مستوى أفضل، وأنْ يؤدي رسالته الإنسانية كما يجب، لكنه اصطدم بعقبات كبيرة من الفوضوية والمناطقة والجهوية والجهل… إلخ.
أول تعيينٍ له كان بالحرس الخاص الذي كان عبارة عن تنفيذ أوامر حرفية وجاهزية على الدوام؛ فناضلَ كثيرًا لينتقل إلى مكانٍ آخر رغم أنّ الكثير لا يستطيعون الوصول إليه، لكن حظه كان سيئًا جدًّا؛ فانتقل إلى الفرقة الأولى مدرع أيضًا، ولم ييأس أو يستسلم أو ينكسر، بل تحيّن كلّ الفرص المتاحة وغير المتاحة لتأهيل نفسه في الداخل والخارج.
تعرّض كغيره من المؤهلين للظلم والتمييز والتهميش والإقصاء.
لنا ذكريات كثيرة في السفر والتنقل في ظروف وأماكن مختلفة من العالم.. لم يكُن العميد عدنان إلا نِعْم الأخ المُحبّ، ونِعْم الرجل الشجاع الكريم المِقدام الذي يُقدّم حياته قبل حياتك، ونِعم الصديق الصدوق المنصف، ونِعم الرفيق البشوش المرح، صاحب الذوق الرفيع والنكتة اللاذعة والحسّ الإنساني الكبير… كان حلم العميد عدنان أنْ يرى اليمن في مصاف الدول المتقدمة بعيدًا عن كلّ العاهات الجاثمة على كاهله، وأنْ ينعمَ اليمن بالأمن والاستقرار والحكم الرشيد، لكن عدنان مات مع حلمه.
برحيل أخي عدنان خسارتي وخسارة البلد لا توصف، ولا تقدّر بثمن، رحمة الله تغشى روحه، وربنا يحقق حلمه وحلم أبناء بلده».
ذكريات
د. مُحَمَّد علي عزيز، أكاديمي يمنيّ في الولايات المتحدة، يعملُ مدرّسًا للغة العربية في جامعة ييال الأميركية:
«كانت زمالتي مع العميد عدنان أحمد السيّاغي، رحمة الله تغشاه، منذ المرحلة الابتدائية.. أولاً: تزاملنا بمدرسة الوحدة، ثم تمّ فصل المدرسة إلى مدرستين، وتمّ نقلنا إلى مدرسة الثورة القريبة من منزل عدنان.. مكثتُ هناك عامًا واحدًا، ولم أطق البقاء في مدرسة الثورة، ولا أعلم أيّ سبب يدعو للتغيير، لكن الطفولة ليس لها أحكام أو أسباب، وإنما هي البراءة، فبقيَ صديقي المرحوم في المدرسة القريبة من بيته، وأكملتُ تعليمي في مدرسة الوحدة، ثمّ التقينا مجدّدًا في المدرسة الإعداديّة، والتي كانت بجوار مدرسة الوحدة آنذاك.. عشنا كزملاء أيامًا جميلة، وانتقلنا جميعًا إلى مدرسة النهضة الثانوية.
ذات يوم، كنتُ في تعز لشراء بعض المواد الكهربائية لدكان والدي (رحمه الله)، وبالصدفة التقيتُ بعدنان، وكان في ذلك الوقت قد دخل في مشكلة مع بعض العصابات في تعز، وكان قد أوجعهم ضربًا، برغم أنهم مجموعة وهو بمفرده، ثمّ قال لي: أنا راجع إلى إب، وقلتُ له: أنا ذاهب للفرزة للعودة إلى إب، فقال لي فرصة اطلع السيارة، وكانت سيارة حمراء شبابية، وأدخلتُ الأدوات التي اشتريتها إلى خانة السيارة، فكان عدنان يقودُ السيارة بسرعة فائقة بهدف الهروب من تلك العصابة، لدرجة أنّ السيارة كانت ترتج من كلّ جوانبها، ولم يستقرّ حتى وصلنا إلى القاعدة، وهدأ بعد ذلك.. وكنت متعجبًا من إصراره على سفرنا جميعًا، على الرغم من أنه كان بحاجة إلى الهروب من ذلك المكان، وأصرّ عليّ ألّا يأخذ نقودًا للبترول، وأنا قلتُ له: إذا لم تأخذ سأنزل من السيّارة؛ فقال لي: نحن زملاء وأصدقاء، ولكني أصررتُ على ذلك، فاضطرّ أخيرًا أنْ يقبل مني ما يدفعه الراكب من تعز إلى إب، ولو ركبتُ بسيارة أجرة لدفعتُ ضعف المبلغ مقابل حمولة الأدوات.
وعندما جاء التجنيد للخدمة الإلزامية، توزّعنا على وحدات مختلفة؛ فكان من نصيبي سلاح الإشارة، وكان من نصيبه سلاح المدرعات، وكنا نلتقي في أحد المقاهي في “التحرير”، ونتبادلُ المعلومات وذكريات أيام الدراسة. وبعد الانتهاء من الخدمة الإلزامية، سافرتُ لتعلّم اللغة الإنكليزية في بريطانيا، والتحقَ صديقي بالكلية الحربية. ولما رجعت من لندن والتحقت بجامعة صنعاء كنا نلتقي إذا خرج لإجازة بالصدفة. ثم انقطعت الأخبار بيننا بعد أنْ سافرت إلى أميركا. وللصدفة المدهشة، جاء إلى أميركا لدورة تدريبية، والتقينا في واشنطن. وكانت فرحة كبيرة أننا اجتمعنا، وركبنا جميعًا سيارتي، وأطلعته على مكان سكني في برنستون من ولاية نيوجرسي. وتوادعنا بعدما علمتُ بسفره إلى اليمن.
وعندما كنتُ أزور اليمن كنت ألقاه ونخزّن جميعًا في بيته، وبحضور أخيه الأديب حسين أحمد السيّاغي، وآخر صورة كانت لي مع عدنان في بيته، وضمت الزميل عبدالعزيز العاصمي، والقاضي أحمد على لطف السادة.. رحم الله الفقيد الغالي العميد عدنان أحمد السيّاغي، ورفع في الجِنان درجاته».
محطات
عبدالحكيم العفيري، وهو ناشطٌ يرأسُ إحدى المنظمات المدنية في اليمن:
«حكايتي طويلة مع الراحل عدنان السياغي، فقد كنا أصدقاء، وكانت صداقتنا تمر بدورات اتفاق واختلاف وخصومة وفراق، ومن ثم عودة.. ومن المحطات الأخيرة التي جمعتني به أننا اتفقنا أنه سوف يكتبُ مذكرات ضابط غير مرغوب فيه في الفرقة الأولى مدرع التي كان يقودها علي محسن صالح.. ولا أدرى هل فعل ذلك أو لم يفعل.
ما تبقى لديّ هو مجموعة من التصورات والأفكار من نقاشات خاصة ومفتوحة كثيرة عن الجندية في صفوف الفرقة الأولى مدرع من خارج جماعة القائد، والتي كانت كلها مخاطر؛ لذلك كان عدنان متحفظًا كثيرًا، وبعد أنْ توالت فصول انهيار منظومة الحكم كان يرى كلّ شيء أمامه، ويقول: هل هي حقيقة أم أننا نحلم؟! هل معقول ينتهي كلّ شيء بهذه السرعة؟! وبعد أنْ بدأت الحرب لزم مدنية إب وكان يزور صنعاء بين الحين والآخر.. كان يجمعنا رمضان سنويًّا في منزل المرحوم الحبيشي، وبعد أنْ تُوفي الحبيشي فقدتْ ليالي إب جاذبيتها عندي».
قيادي شريف
رشيد النزيلي، ناشر ورئيس تحرير صحيفة وموقع (اليمني الأميركي):
«التقيتُه عام 2003 عندما زار أميركا، وتحديدًا في واشنطن عندما جاء مشاركًا في دورة مع وزارة الدفاع عن مكافحة الإرهاب.. والتقيناه واتفقنا يزور ولاية ميشيغان، وعندما وصل إلى ميشيغان عشنا مع بعض قرابة شهرين، وكان كتلة من النشاط لتقديم بلده بالشكل الجيّد والرائع.
كان عدنان السيّاغي يُدرك قبل الآخرين أنّ الإرهاب صفة ألصقتها المخابرات الغربية بالشرق الأوسط بشكلٍ عام.
كان يُحب اليمن بدليل أنه عندما كان يتحدثُ لوسائل الإعلام المحلية من خلال أكثر من مقابلة هنا، كان يتحدثُ عن اليمن بشكلٍ متميز.
كان رجلًا قياديًّا بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى، وكان مشهورًا في الفرقة الأولى مدرع التي كان يرأسها علي محسن صالح، ويومها كان من كبار المدربين.
كان يتمتعُ بنفَسٍ قيادي ووطني شريف، كما كان يتحلى بصفات متميزة، ويتميزُ بأكثر من موهبة، ومن صفاته الشخصية الهدوء في الحديث والنكتة والابتسامة.
لقد فقدَ اليمن وأسرته وزملاؤه وأصدقاؤه برحيله شخصية من الصعب تعويضها عبْر السنين، لكننا نقول إنّ الموت حق علينا جميعًا».
تعليقات