أنور حامد*
“بعد سنوات طويلة من رحيله عام 2003 يبقى إدوارد سعيد شريكًا في كثير من حواراتي المتخيلة”، يكتب تيموثي برينان في بداية سيرة سعيد التي كتبها.
وتقول الكاتبة أهداف سويف، في مقال نشرته صحيفة الغارديان البريطانية، إن عدد الكتب المنشورة عن الأكاديمي الفلسطيني/ الأمركي بلغت حوالى 50 كتابًا.
قبل 18 عامًا رحل، لكن المياه التي قذف فيها حجارته ما زالت متحركة. مقالات، دراسات، أطروحات تُكتب حول إرثه الفكري، نظرياته، مفاهيمه الجديدة التي خلخلت أخرى راسخة ومتمكنة.
لقد أثار كتابه “الاستشراق” كثيرًا من الجدل، وكثيرًا من سوء الفهم وسوء التأويل الذي أثار غضب المفكر سعيد.
كثير من أفكاره وسلوكياته كانت ملتبسة: في السياسة والأدب ولفكر، وكان له جمهور من المريدين في أنحاء العالم، الذين يتبعون خطاه مثل عاشق صوفي، وجمهور من المناوئين.. قال لي أسامة أحمد، أكاديمي فلسطيني يعيش في الولايات المتحدة، إن “مريديه” كانوا يتبعونه من ولاية إلى ولاية لحضور محاضراته.
عن إحدى محاضراته الأخيرة في جامعة كاليفورنيا قبل رحيله روى الشخص الذي قدمه للجمهور أن مشردًا يجلس في محيط الجامعة يطلب من الرائحين والغادين عملة معدنية: هل لديك دولار يا سيدي؟ هل تحملين شيئًا من الفكة يا سيدتي؟
في ذلك الصباح، صباح المحاضرة، يقول الشخص، مر بذلك المشرد فناداه قائلاً: هل لديك تذكرة إضافية لمحاضرة إدوارد سعيد؟
بالنسبة للفلسطينيين هو مثل محمود درويش الذي لا يفهم بعض أشعاره البسطاء مثلاً، لكنهم يحسون بانتماء إليها.
هكذا كان الوضع بالنسبة لإدوارد سعيد أيضًا، نظرياته في اللغويات والفكر والسياسة معقدة، لا يستطيع فك طلاسمها البسطاء، لكنه تحول إلى أيقونة فلسطينية، يختلف بعضهم حولها، لكن يقدرونها.
في كتابه Places of mind, a life of Edwar Said
يتحدث المؤلف تيموثي برينان عن قدرة سعيد على مزج النتاج الفكري والنشاط السياسي.
ويكتب إيفي شلايم في الفاينانشال تايمز “أن سعيد كان شخصية متعددة الجوانب، وبالرغم من إنجازاته وشهرته العالمية كان يفتقد الإحساس بالأمان الداخلي ويكتنفه الشك والتوتر”، وهذه سمة المثقف القلق الذي كان.
التأويل الخطأ
في مقابلة أجراها معه الشاعر نوري الجراح عام 1996، ونُشرت في مجلة “الجديد” باللغة الإنجليزية سأله إن كان يقلقه أن من بين أفضل قرائه العرب المثقفين الذين ينتمون إلى الجماعات الإسلامية الجديدة، والذين يستشهدون على نحو متزايد بأفكاره وكتاباته في حواشي دراساتهم.
أجاب سعيد «بالتأكيد، ولقد أعربتُ مرارًا عن قلقي حول هذا الموضوع، إذ أجد أن آرائي يُساء تفسيرها، خاصة أنها تشمل انتقادًا كبيرًا للحركات الإسلامية. أولاً أنا علماني. ثانيًا أنا لا أثق بالحركات الدينية. وثالثًا أنا لا أتفق مع أساليب وحركات ورؤى هذه الحركات. ومن الممكن جدًّا أن تقرأ لكاتب معين وفقًا لتفسير معين، وهذا يحدث معي في كثير من الأحيان، مما أدى إلى سوء فهم. في مقدمتي للطبعة الجديدة لكتاب “الاستشراق” أصررت على هذه المسألة، وأشرت إلى الفرق الشاسع بيني وبين القراءات الإسلامية التي اتهمني بعضهم بها. في كتاب “الاستشراق” أنا لا أتحدث عن الإسلام، وإنما عن صورة الإسلام في الغرب، وأقدّم نقدًا للأسس والأهداف التي تقوم عليها هذه التغطية».
لكن الخلافات في تأويل نصوصه، أفكاره لم تقتصر على “الإسلاميين”، فقد اختلف فيها أكاديميون غربيون ومفكرون عرب علمانيون ودارسون لإرثه من كل الخلفيات الثقافية واللغوية.
اللغة، الغربة الأولى
لنبدأ من الترجمة العربية لكتاب السيرة الذاتية الذي اختار له عنوان “Out of place” ، واختار له فواز طرابلسي الذي ترجم الكتاب العنوان “خارج المكان” باللغة العربية.
لا تفي الترجمة العربية للعنوان بما يعبّر عنه العنوان الإنجليزي. نحن نتحدث بالإنجليزية عن “غربة” أو “اغتراب” أو شكل ما من أشكال الانفصام عن البيئة المحيطة به. لا يعبر عن كل هذا تعبير “خارج المكان” إن كان يعبر عن أي شيء على الإطلاق. بل هو ترجمة حرفية للمحتوى اللغوي للعنوان لا للمدلول. وهذا كان أحد سمات مأزق إدوارد سعيد في حياته كلها: ابتداءً من البحث عن مكان في بيئة هو وافد إليها، إلى الكتابة بلغة ليست لغته الأم وليست وليدة الثقافة التي نشأ عليها، إلى محاولة امتشاق ملامح بهوية محددة في التعاطي مع العالم وقضاياه، وهي مهمة لم تكن سهلة على الإطلاق.
يكتب في مقدمة كتاب السيرة الذاتية الذي اختار له العنوان الإنجليزي ” Out of place” ” عن الكاتب البولندي/ البريطاني، جوزيف كونراد، الذي يرى سمات مشتركة مع تجربته الثقافية: “سحرني في الرجل أنه كتب باللغة الإنجليزية أعماله العديدة من روايات وقصص ومذكرات، وكلها تغرف من حياته الغنية على نحو مستبعد التصديق بوصفه بحارًا ومكتشفًا ومغامرًا. ومع ذلك كانت الإنجليزية لغته الثالثة بعد البولونية والفرنسية. في كتابي عن هذا الكاتب الذي ظل يثيرني، بل إني بالتأكيد مهووس به في نواحٍ عديدة، أحاجج أنه عاش تجاربه في اللغة البولونية، لكنه وجد نفسه مسوقًا إلى الكتابة عن تلك التجارب في لغة ليست لغته، فإذا النتيجة كاتب متفرد في الأدب العالمي من حيث الأسلوب والمحتوى معًا”.
تجربة كونراد التي افتتن بها سعيد هي نتاج متفرد قائم على استخدام عالم لغة وثقافة وتداعيات وصور ومفاهيم مرتبطة بثقافة المنشأ للتعبير بلغة أخرى لقراء من خلفيات ثقافية أخرى. تكون النتيجة بالضرورة شيئًا متفردًا، فأن تكتب أدبًا روائيًّا بنفس لغة المنشأ هو تجربة أقل ثراء من التعبير عن المحتوى الجمالي بلغة غير تلك التي أنتجته.
هذا مظهر من مظاهر الاغتراب اللغوي والمعرفي الذي شكل تجربة إدوارد سعيد في التعبير عن أفكاره، الذي هو بالضرورة يكسب النتاج ثراء متفردًا، لكن ماذا عن منتجه؟ كيف يحس بينما يحاول التعبير عن أفكاره بلغة ثقافة أخرى؟ هو يستخدم الإنجليزية في الكتابة والتعبير عن أفكاره. تجربته أكثر تعقيدًا من تجربة كونراد، فاللغة البولندية في النهاية لغة أوروبية، وإن كانت تنتمي إلى عائلة مختلفة عن تلك التي تتبعها الإنجليزية التي كتب بها. أما العربية فتأتي من عالم بعيد جدًّا عن عالم الإنجليزية. مدلولات الكلمات، تداعياتها، وطبيعة الصور، كلها مستقاة من خلفية ثقافية ومادية مختلفة تمامًا. ناهيك عن العلاقة المشاعرية بالكيانات السياسية لتلك اللغة.
يكتب سعيد عن الشرخ بين «العالم الذي تنتمي إليه عائلتي وتاريخي وبيئتي وذاتي الأولى الحميمية، وهي كلها عربية، من جهة، وعالم تربيتي الكولونيالي وأذواقي وحساسياتي المكتسبة ومجمل حياتي المهنية معلمًا وكاتبًا من جهة أخرى».
هو يشير هنا إلى جانب آخر شاعري الطابع، ينبع من العلاقة المتوترة بين العالمين الذين تنتمي إليهما اللغتان، والإرث الكولونيالي الذي يخيم على المشهد، ويلقي بظلاله على العلاقة باللغة الجديدة إلى حد ما.
هنا يبرز الفرق بين تجربة كونراد وسعيد، فعلاقة الأولى بلغة الكتابة (الإنجليزية) حيادية على المستوى المشاعري، أما بالنسبة لإدوارد سعيد فاللغة مرتبطة بتاريخ وإحالات ودلالات لا يمكن تحريرها من تداعيات العلاقة بالسياسة، سواء البريطانية أو الأمريكية.
أن تكون في حالة اغتراب عن عالم اللغة التي هي الوسيط الحامل لنتاجك الفكري يفاقم بالضرورة من شعورك بالتشظي.
تلازم حالة التشظي هذه سعيد طوال حياته، وهي سمة المثقف الذي تلقي به أقداره في خضم ثقافتين العلاقة بينهما ليست محايدة.
سيبقى المثقف اللا منتمي، أو متعدد الانتماء في حالة قلق طوال حياته، وهذا يؤثر بالضرورة في علاقته بالعالم.
يصف سعيد العلاقة بين عالميه، عالم المنشأ وعالم الحياة اللاحقة، “بسوء التفاهم” والهوة الناجمة عنه، ويقول إن مهمة تجسير الهوة بين العالمين تقع على عاتقه شخصيًّا.
غادر إدوارد العالم العربي، بيئة لغة المنشأ، في سن مبكر، لكنه في سعيه إلى “تجسير الهوة” عاد لاحقًا إليه. اختار أن يستعيد هويته العربية، أن يعيد قراءة حياته السابقة بوعيه الآني، على أمل أن تعيد تلك القراءة إليه ما كان يرغب فيه من تكيف أفضل وأكثر تناغمًا بين ذاته العربية وذاته الأمريكية، لكنه يقول “كلما أوغلت في ذلك الجهد ازددت اقتناعًا بأنني إنما أسعى إلى تحقيق فكرة طوباوية”.
رحل إدوارد سعيد في الخامس والعشرين من سبتمبر/ أيلول عام 2003، طوى الصفحة الأخيرة في كتاب لم يكتمل بعد هو حياته الحافلة بالمشاريع الفكرية والأدبية والسياسية.
*عن (بي بي سي نيوز عربي)
تعليقات