صنعاء – « اليمني الأميركي»:
إبراهيم جحوش (39 سنة).. صائغ فضيات وحرفي يمني يشتغل على العقيق يروي لصحيفة (اليمني الأميركي) حكايته مع الإعاقة وخدمة المعاقين خلال الحرب المستعرة في بلاده منذ أربع سنوات..
كما يتحدث عمّا ألحقته الحرب به بعد فقدانه مصادر دخله، بما فيها راتبه في اللجنة الوطنية للطاقة الذرية، الأمر الذي دفعه للعودة لحرفة عائلته في صياغة الفضيات والعقيق، وفعلاً استطاع بواسطة هذه الحرفة توفير دخلٍ لائقٍ لعائلته، قائلاً، كما قال والده: إن “الحرفة أمان الدهر».. كما أنه ينتظر دعمًا بمبلغ (10) آلاف دولار لتأسيس معمل لتدريب مئات المعاقين اليمنيين على هذه الحرفة، تحت إشراف منظمته المتخصصة بتأهيل المعاقين بصنعاء.
إنه يقدّم درسًا ثمينًا في تحدي الإعاقة والحرب في بلد يتقاتل بعض أبناؤه في حرب مستعرة، لكن الغالبية المتبقية منهم همّ صناع سلام…يقدّم درسًا في قدرته على فهم كلام الآخرين من خلال حركة شفاههم، متجاوزًا إعاقته في الصمم، كما يقدّم درسًا في قدرته على تجاوز ما كان عليه عمله في اللجنة الوطنية للطاقة الذرية والبدء من جديد في حرفة تقليدية، بل إنه يقدًم درسًا آخر في التفاتته لشريحة المعاقين من خلال تأسيس منظمة تُعنى بتدريبهم…وهو هنا يدعو لدعم تأسيس معمل تدريبي بمبلغ صغير لكنه سينقذ المئات من المعاقين.
المنظمة والحرفة
وكان إبراهيم قد أسس منظمة «صدى»، بهدف تدريب المعاقين على مهارات تمكنهم من الاعتماد على ذواتهم، ومن أهم مشاريع هذه المنظمة: تأسيس معمل تدريب المعاقين على مهارات صياغة الفضيات والعقيق، وهو مشروع صغير يريد منه أن ينقل خبرته وتجربته الحرفية للمعاقين ليعتمدوا على أنفسهم، “ننتظر من يدعم المشروع ليس بعين الشفقة وإنما اسهامًا في دعم شريحة لن تحتاج لاحقاً لأي مساعدة بل ستساعد بلدها».
صحيفة «اليمني الأميركي»، زارت للمرة الثانية، إبراهيم في منظمته، لكن هذه المرة للوقوف على تجربته مع حرفة صياغة الفضيات والعقيق ومشروع تأهيل المعاقين حرفيًّا.. كما زرناه في معمل والده الحاج عبدالله حسين جحوش، للتعرف على طبيعة العمل والتقاليد اليمنية الأصيلة المتوارثة في هذه الحرفة، وتُعد (عائلة جحوش)، ممثلة بوالد إبراهيم وأشقائه، من أهم المشتغلين في سوق صنعاء على الفضيات… حتى أن الناس يقصدون دكانهم في سوق الملح من أنحاء البلاد، كما بات لهم زبائن من بلدان أخرى عبر مواقع التواصل الاجتماعي في البيع..وقد يستغرب الزائر، وهو يتحدث إلى أشقاء إبراهيم أنهم خريجو جامعات ومتخصصون في مجالات علمية عصرية، وفي ذات الوقت يشتغلون على حرفة آبائهم وأجدادهم.
الحرب والطاقة الذرية
وكان إبراهيم قد انقطع عن العمل الحرفي عقب تخرجه من الجامعة في مجال المحاسبة والتحاقه بالوظيفة الحكومية، وكان يشغل قبل الحرب موقع مدير عام مساعد في اللجنة الوطنية للطاقة الذرية.. لكن مع اندلاع الحرب وتوقُّف صرف الرواتب الحكومية وانقطاع كثير من مصادر الدخل عاد إبراهيم لحرفة عائلته، وهي حرفة تعلمها منذ طفولته ككل أشقائه، يقول: “أصبحتُ، منذ عودتي للعمل في صياغة الفضيات والعقيق، مستقرًا متجاوزًا أزمة الحرب».. يوزع إبراهيم، الذي فقد حاسة السمع قبل بضع سنوات نتيجة إصابته بحمى شوكية، وقته بين إنجاز طلبات الأعمال الفضية والعقيق بموازاة عمله في منظمته على تأهيل المعاقين.. لقد صار له معمل صغير في منزله، ويعتمد على مواقع التواصل الاجتماعي في العرض وتلقي الطلبات.
من خلال حديث إبراهيم وكذلك شقيقه محمد (خريج كلية الهندسة)، وكذا الاطلاع على كيفية تنفيذ أعمال الصياغة يتجلى مدى حرص هذه العائلة على الالتزام بكل ما له علاقة بتقاليد صياغة الفضيات والعقيق، وهو ما يعكس مدى وعيهم بخصوصية التراث في علاقته بالهُوية اليمنيّة.. وتعدّ حرفة الصياغة، كما يطلقون عليها في أسواق صنعاء القديمة، من أهم الحرف التقليدية اليمنية؛ لأنها تعتمد على عمل يدوي خالص تسنده خبرة متراكمة ينتج عنها إبداع هندسي وجمالي دقيق يؤدي إلى قطعة تكون أقرب للتحفة الفنية.
يتداخل مع حرفة الصياغة الاستفادة الجمالية من العقيق كحجر طبيعي فريد له تقاليد متوارثة في استخراجه وتهيئته في تزيين المصوغات كالخواتم والأساور والقلائد والخلاخيل.
صوغ الفضة
ويعتمد الصاغة على عددٍ من الآلات في تهيئة القطع الصغيرة؛ فالخاتم الفضي، مثلاً، يتكون أحيانًا من خمسين أو ستين قطعة يتم تركيبها في الجسم وفق التصميم، وقبلها يتم تجهيز كل قطعة بدقة فائقة، بدءًا بقطع الجوانب ومرورًا بالسقف، وانتهاءً بموضع الفص.
ويُعد إبراهيم ككل اشقائه صائغ فضيات في المقام الأول، ومن ثم حرفيّ عقيق، كما يقول: إن المصوغ يعتمد على الفضة بنسبة 90 بالمئة والنسبة المتبقية هي للعقيق. يقول:» أفضل أحجار العقيق يأتي من منطقة آنس في محافظة ذمار- وسط اليمن، وجودة العقيق اليماني في لونه ونقائه، والأفخر هو الآنسي الأحمر الكبدي، كما أن هناك أنواعًا أخرى كعقيق ملون ومزهّر ومصّور».. ويضيف: يمر العقيق بمراحل.. وهنا يتم جلخه وصقله وتقطيعه لأشكال كالبيضاوي والقبة والمدور، مجوّف أو مسطّح».
أساطير العقيق
يتحدث إبراهيم عن أساطير مرتبطة لدى البعض بالعقيق كطلب البعض عقيقًا يجلب الرزق أو القوة أو الوجاهة.. إلخ، وكما يقول، فهذه الأساطير غالبًا لدى غير اليمنيين، وبخاصة أبناء العراق وبلدان الخليج، “لكنني أقول لهم: أنا أبيع عقيقًا يمانيًّا أصيلًا، وحجرًا طبيعيًّا، أما التأثير فلا أعلم به.. أنا صائغ أحترم إبداع الصياغة اليدوية وجمال الحجر الطبيعي».
ويشير إلى أن الصائغ الأصيل لا يتدخل في جمال فص العقيق.. رافضًا ما يمارسه البعض من استخدام تقنيه إضافة شريحة لصورة تظهر على الفص وكأنها صورة أصلية في الحجر…يقول: هناك فصوص تحمل صورًا، لكنها مقاربة جزئيًّا لأشكال في الطبيعة، وهو ما يُعرف بالعقيق المزهّر أو المصوّر.
وأشار إلى ما تعانيه حرفتهم من تقليد للمصوغات بالاعتماد على آلات تنسخ مصوغاتهم طبق الأصل، لكن ليس بنفس الجمال، فالإبداع اليدوي يبقى مختلفًا كما يقول إبراهيم، مؤكدًا على صرامة والده في الالتزام بالتقاليد المتوارثة.. معتبرًا أن قيمة هذه المصوغات في كونها نتاج عمل يدوي يمنيّ، والعمل اليدوي يعكس جمال الإبداع الإنساني – حد تعبيره.. منوهًا بفرق كبير بين العقيق اليماني الأصيل والعقيق المقلد المصنوع؛ فالعقيق اليماني له لونه وملمسه ونقاؤه وجماله وتجدد رونقه.
ويفضّل إبراهيم تنفيذ أعماله وفق أنموذج يطلبه الزبون.. فالصياغة اليدوية – كما يقول – تعتمد على القياسات الدقيقة التي تمنح المصوغات قيمتها الإبداعية الجمالية.
مما سبق يؤكد إبراهيم جحوش أهمية الحفاظ على الحرف التقليدية مجددًا دعوته لدعم مشروع تأسيس معمل تدريب المعاقين على هذه الحرفة…”فالمشروع يخدم تراث اليمن من خلال شريحة من المعاقين في مواجهة الإعاقة والحرب”.
تعليقات