Accessibility links

إعلان

وضاح عبدالباري طاهر*

إنك حين تقرأ هذا الكتاب (الحقيقة الغائبة) الصغير حجمًا، الكبير معنى وفائدة، لن تعود بعد مطالعته كما كنت من قبل.

إنه كتاب يصدم، ويغير، ويفسح المجال لإعادة النظر في كثير من المسلمات التي تلقاها معظمنا ضمن مناهج أريد لها ألا تقف إلا حيث يستريح المتلقي، ويطمئن الموجه والمرشد.

لكن الحقيقة خلاف ذلك، وهو أن الناس من دون الأنبياء المعصومين، مذ كانوا، هم الناس، لم يتغيروا كثيرًا، فهم بشر تحركهم غرائزهم، ورغباتهم، ورهباتهم، وتحدوهم نفوس تتجاذبها نواحٍ كثيرة، ومنازع متعددة.. هذا هو رأي الحكيم أبو العلاء المعري الذي يقول:

كم وعظ الواعظون منا/ وقام في الأرض أنبياءُ

فانصرفوا والبلاء باقٍ/ ولم يزل داؤنا العياءُ

وقد وافقه واقتفى أثره عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي في كتابيه: “وعاظ السلاطين”، و”مهزلة العقل البشري”، وكذا في أجوبة الأسئلة التي وجهت له، وصدرت في كتاب “في الطبيعة البشرية.. محاولة في فهم ما جرى”، وقد تساءل الرصافي مستنكرًا، فقال:

وهل قد خُصصنا دونَ من كان قبلنا/ بقبح السجايا شدَّ ما نتحمقُ؟!

وما أحسن ما قاله الدكتور فرج فودة في كتابه هذا: إنه بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى تاريخ الإسلام، وبدأ تاريخ المسلمين.. نعم، ففرج فودة يفرق بين الوحي الذي انتهى بموت صاحب الرسالة المعصوم صلى الله عليه وسلم، وبين التاريخ الذي اختطه من جاء بعده من الخلفاء الراشدين، والدول المستبدة التي أعقبتهم، وقامت باسم الدين من أموية وعباسية… إلخ.

لم يوارَ جثمان النبي صلى الله عليه وسلم في الثرى، حتى قامت حروب أهلية كادت أن تعصف بالإسلام، وتقتلعه من أصوله، ولم يكن كل من شنت عليهم تلك الحرب بسبب الردة عن الإسلام؛ إذ كان بعض من استهدفتهم الحرب مسلمون لهم رأي وتأويل في مسألة الزكاة، كما أن بعضهم تم شن الحرب عليهم ظلمًا وعدوانًا.

لنأخذ – على سبيل المثال – حادثة الردة في حضرموت كما يحكيها المؤرخ الطبري في كتابه “تاريخ الرسل والملوك”، ج 2، ص201، حيث يذكر أن زياد بن لبيد والي حضرموت، ولي بنفسه صدقات بني عمرو بن معاوية، فقدم عليهم وهم بالرياض، فانتهى إلى غلام يقال له شيطان بن حجر، فأعجبته بكرة – البكرة هي الفتية من النوق – من الصدقة، ودعا بنار، فوضع عليها الميسم، وإذا الناقة لأخي الشيطان العداء بن حجر، وليست عليه صدقة، وكان أخوه قد أوهم حين أخرجها، وظنها غيرها، فقال العداء: هذه شذرة – باسمها، فقال الشيطان: صدق أخي، فإني لم أعطكموها إلا وأنا أراها غيرها، فأطلق شذرة، وخذ غيرها، فإنها غير متروكة، فرأى زياد أن ذلك منه اعتلال، واتهمه بالكفر، ومباعدة الإسلام، وتحري الشر، فحمي، وحمي الرجلان؛ فقال زياد: لا ولا تنعم، ولا هي لك، لقد وقع عليها ميسم الصدقة، وصارت في حق الله، ولا سبيل إلى ردها، فلا تكونن شذرة عليكم كالبسوس، فنادى العداء: يا آل عمرو بالرياض أضام واضطهد، إن الذليل من أُكل في داره”.

هذا مقتطف من حادثة تبين كيف سارت الأمور، وإلى أي حد انتهت، فإما أن يأخذ الوالي زياد بن لبيد الناقة التي لا يحل له في شرع الإسلام أخذها، أو أن يدمغ أصحابها الضنينين بها بِركة الدين، والمباعدة عن الإسلام والكفر.

لقد آلت الخلافة لقريش، ونحي الأنصار جانبًا، واستئثر دونهم بالمال والسلطة، حتى إن العشرة المبشرين بالجنة كلهم من قريش، لا تكاد تجد في هذا الحديث الوارد بشأنهم أنصاريًّا واحدًا، وهم الجناح الثاني للإسلام، ثم إن زعيم الخزرج سعد بن عبادة الذي رشح نفسه للخلافة، وامتنع عن مبايعة الخليفة الأول، تم إخراجه من بلدته، واغتياله في ظروف غامضة، ونسبت الجريمة للجن بحسب التواريخ التي تلقيناها، وما لبث الأمر أن صار الملك ليزيد، فاستباح مدينتهم قائدهُ مسلم بن عقبة، واغتصبت نساؤهم، وأرغموا إرغامًا على البيعة ليزيد، وأنهم أقنان وعبيد له.

يحكي ابن الأثير في تاريخه “الكامل”، ج 3، ص456، أن يزيد خرج يستعرض جيشه، وهو متقلد سيفًا، متنكب قوسًا عربية، وهو يقول:

أبلغ أبا بكرٍ إذا الليل سرى … وهبط القوم على وادي القرى

أجمعُ سكرانٍ من القوم ترى … أم جمع يقظان نفى عنه الكرى؟

يا عجبًا من ملحدٍ يا عجبًا … مخادعٍ بالدين يعفو بالعرى

فهذا الخليفة الماجن يتهم الأنصار بالإلحاد، وكأنه المؤمن التقي، ومن خرج عليه هو الكافر الملحد الذي يرفض دين الإسلام.

إن القصتين التي أوردناها تتفق في أمر واحد، وهو استخدام صاحب السلطة للدين، والرمي بالكفر لكل من يختلف معه.

لقد ركز الدكتور فرج فودة في كتابه على مدنية الدولة، وأن تديين الدولة يضع الدولة في مآزق تبدأ ولا تنتهي، فالكثير من الحكام المستبدين استخدموا الدين أداة يرسخون بها حكمهم، ويبررون ظلمهم وعسفهم بالناس.

ومن المفارقات التي لا ينتهي منها عجبك أنك تجد خليفة المسلمين الواثق بصورتين مختلفتين، الأولى: صورة الرجل الماجن المغرق في لذاته ولهوه، وتغزله بغلامه مهج الذي يتعشقه، وفيه يقول شعره:

مهج يملك المهج … بسجي اللحظ والدعج

حسن القد مخطف … ذو دلال وذو غنج

ليس للعين إن بدا … عنه باللحظ منعرج

أما الصورة الثانية، فنترك الدكتور فودة يتحدث عنها، حيث يقول: “بيد أن البعض قد يتصور أن عمر خلافة الواثق قد ضاع على مهج وأمثاله، لكن ذلك لم يكن صحيحًا، فقد كان للواثق وجه آخر يحلو له أن يخرج به على الرعية، ويبدو فيه حاميًا لذمار العقيدة، ومناضلاً من أجل صحيح الدين”.

ثم يسترسل فودة في ذكر قصة قتل الواثق لأحمد بن نصر الخزاعي الخارج عليه، وامتحانه بمسألة خلق القرآن، وتعليق ورقة وجدت بعد قتله معلقة بأذنه مكتوب فيها: هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك دعاه عبدالله الإمام هارون إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه، فأبى إلا المعاندة فعجله الله إلى ناره.

وما لم يذكره فودة، وذكره المؤرخون هو تكفير الواثق للخزاعي، وهو هو نفسه السلاح الذي يرفعه الحاكم باسم الدين في وجه معارضيه.

يطرح الدكتور فودة أسئلة تحتاج لأجوبة حقيقية، ولن يستطيع الفقهاء وعلماء الدين الإجابة عليها وحدهم، وهي:

– كيف ترتفع الأجور وتنخفض الأسعار إذا طبقت الشريعة الإسلامية؟

– كيف تحل مشكلة الديون الخارجية بمجرد تطبيق الشريعة الإسلامية؟

– كيف يتحول القطاع العام إلى قطاع منتج بما يتناسب وحجم استثماراته في ظل تطبيق الشريعة الإسلامية؟

يقول فودة: “هذه مجرد عينات من الأسئلة على الداعين للتطبيق الفوري للشريعة، والمدعين أنها سوف يترتب عليها حل فوري لمشاكل المجتمع أن يجيبوا عليها، وهم إن حاولوا الإجابة وجدوا أنفسهم أمام المأزق الذي يدور هذا الحوار حوله، وهو وضع برنامج سياسي متكامل، بل إن تفرغهم للإبداع النقلي من اجتهادات القرن الثاني الهجري يمكن أن يقودهم إلى تعقيد المشاكل بدلاً من حلها”.

هذه لمحة كاشفة عن الكتاب، وأسئلته الخطيرة التي تضمنها في طياته، فلا ينبغي أن يفوت المهتم الاطلاع عليها، والوقوف عندها مليًّا، وقد دفع فرج فودة رأسه ثمنًا لها.

* كاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات