فكري قاسم*
في منتصف ثمانينيات القرن الماضي هبطت في حارتنا عائلة أجنبية راقية سكنت داخل بيت أنيق جنب بيتنا بالضبط، وفرحتي يوم تقول لي أمي أسير أنفعها لا عندهم، أنبع صليهم مثل الطير وقلبي يرفرف لـ”روبي” بنتهم الوحيدة اللي تفتح لي الباب وهي مبتسمة وتقول لي هالو.. هاو آر يو fekry وأحس بنغمة حروف اسمي وهي طالعة من لسانها مثل صوت عصفورة تغرد فوق غصن خضير يتدلى من شفتيها إلى بستان روحي.
روبي شقراء بنفس سني تقريبًا ضحوكة ومرحة تعيش مع أمها وأبوها حياة مرفهة داخل بيت مرتب بطابع أوروبي بكل تفاصيله ويتخضر قلبي كلما أشوفها في كل منفعة أقوم بها إلى بيتهم وأحس لكأني أشوف العالم الخارجي يتمشي كل يوم قدامي وأسير وأجي بكل مشوار إلى بيتهم وانا خاور أجابرها خيرات وخاور أقول لها أنت حلوة وأشياء كثيرة من تلك التي يشتي يقولها أي صبي مراهق للبنت اللي خطفت قلبه، ولكن مقدرش انطق، وأحس لساني مربوط إلى جذع كلمات وحروف لا تفهمها روبي على الإطلاق، ولا أنا برضه أفهم من كلامها اللي تقوله لي غير “هالو ..هاو آر يو” بس.
ومكنتها كل يوم، على الدخلة والخرجة والسرحة والجية، “هللو، هواريو .. هالو هواريو” لا ما ضبحت البنت مني، وضبحت أنا والكل مني ومن لساني الأعجم اللي مش قادر يزحزح غرامي المخبى لروبي حتى شبرين من بعد هلو هورايو.
هاذاك البيت، وهاذيك البنت المليحة خلوني لا شفت واحد من عيال الحارة حافظ A.B.C.D أقول سُعَيده، ليتنا هوه، وأحس أنه رائد فضاء وصل إلى سطح القمر، وأنه قد يصل قبلي إلى قلب روبي، ومراعي بالسراج أيحين شطلع صف أول إعدادي “سابع” منسب اتعلم إنجليزي وارطن مع روبي..
وكنت بصف سادس في هاذيك الأيام عندما أغرمت بروبي مدفوع بدهشتي عن العالم المتطور الذي جاءت منه بنوتة فتنتني بضحكتها وخلتني أنبع من أول أسبوع لي في صف أول إعدادي لا فوق كتاب مادة اللغة الإنجليزية وبكل شراهة صلا A.B.C.D
وما جاء نص السنة الدراسية إلا وقدنا حافظ A.B.C.D صم، وبسم الله صلا روبي على السيرة وفي الجية أكرع لها A.B.C.D، وهي جالسة، وهي تلعب، وهي تمشط، ويا سعم أن قد بين أجابرها وأن قد معي لغة “قطل” للتفاهم معاها.
وإن تكلمت هي معي بهدار طويل أسمعها وأنا منتبه وأهز رأسي يا سعم فاهم مو تقول، ومهما كان موضوع كلامها معي، قصير وإلا طويل، مهم وإلا مش مهم، جد وإلا مزح، ما معها مني لإثراء النقاش غير A.B.C.D أسمّعه لها غيب طريق طريق، واحسب أن الـ “إي بي سي دي” هي خلاصة الهدار الذي يفترض بها أن تفهمه مني، لكن البنت ملت من حصة التسميع، وملت مني ومن أُم A.B.C.D، ومن أم “هالو ومن هاو آر يو” اللي صدعين برأسها، وحنبت ما أقول لها ولا دريت كيف أجابرها وكرهت الإنجليزي حق أول إعدادي كله هدار عن “أي بي سي دي”، والتربية والتعليم وإدارة المناهج مش مقدرين أن قد البنت باغرة A.B.C.D وتشتي الذي بعده، ولا قدرت أفهم.
بصف ثاني إعدادي تطور الحال شوية وبدأوا يعلمونا كيف تسأل الواحد عن اسمه وعن عمره وشوية من ذيس إيز حفظتهن وصلا روبي بالدخلة واتسيور نيم، وفي الخرجة هاو اولد آريو، وأحيان ممكن أكرع لها واتسيورنيم مع هاو أولد آريو الثنتين دفرة واحدة في مشوار واحد إلى بيتهم، ولكن حتى السؤال عن اسمها وعن عمرها ضبح بها أزيد من حصة التسميع، وهو شي مضبح الصدق.
وكيف لما كل يوم تشوف جارتكم اللي تعرف اسمها وتعرف كم عمرها وأنت ماكودك مرفس عليها كل حين أيش اسمك، كم عمرك، والله حاجة تدي الضيق من صدق، وبما يكفي لإن تسخر مني روبي وتقولي وهي متنرفزة:
– واتسيورنيم هاو أولد اواريو واتسيور نيم اواريو، وشعرت بأن مستقبلي بمواصلة الهدار معها أصبح في خطر وشيك، وأنه يتعين عليّ أن أطور من مهارتي اللغوية بأسرع وقت ممكن ولكن كيف شاطوّر مهاراتي في المجبر والمنهج حق صف ثاني ثانوي “ثامن”، ما بينه من الهدار والبلابلابلا بلا أي شيء يخليك ترطن هدار سوا، وما هو.. ما أفعل ذلحين؟!
وما لقيت حينها عمومًا لفتح موضوع هدار جديد مع روبي غير استخدام الكلمة الأشهر في الوجود كله على الإطلاق، والأكثر رواجًا في العالم، ولا هذا الضجر اللي قد أصبحت عليه علاقتي بها، وقلت لها بهذاك اليوم وأنا واقف عند باب بيتهم تمامًا ساع أبطال الأفلام الهندي:
– آي لاف يو روبي
وتوقعت أن يكون ردها “آي لاف يو فكري” تمامًا سعما ردت البطلة على البطل في الفيلم، ولكن روبي سكتت شوية، وهي تشوف لعيوني بنظرات مربكة ربشتني، ومن ثم ابتسمت لي وبصوت ناعم يمط الكلمتين الخارجتين من شفتيها قالت:
– مي … تو.
وحنبت ما ناش داري ايش هي “مي تو” هذه، ولا عمري قد سمعتها بهدار الحب حق الأفلام، ولا هلها في المنهج، وسألت واحد صاحبي بصف أول ثانوي، وقدو يعتبر من المرجعيات اللغوية عندي، وقلت له:
– أيش معنات “مي تو” بالإنجليزي؟
سألته أشتي أفهم منه ما هو الموضوع بالضبط، ولكنه صعب عليّ الأمر وعقده فوق ما قدوه معقد عندي أصلاً، وقال لي:
– مالك يا أهبل؟ هذي من الإنجليزي الصعبة الذي ما أحد يقدر يترجمها ويعرف معناتها بالعربي، ألا وقدوه في ثالث ثانوي!
أحبطني المرجعية حقي، وزاد من ضجري، وقلت لنفسي وأنا أمشي من جنبه:
– أوووه ذلحين أجلس مراعي لما أطلع صف ثالث ثانوي منسب أدرى ما هي “مي تو” هذه.
ورجعت مره ثانية أقول لروبي:
– آي لاف يو
ردت بنفس العبارة “مي تو”، ولكنها في هذه المرة قالتها من دون تقطيع للجملة في الصوت، وحسيت من ملامح وجهها وكأنها تقو ل لي:
– مله وكيف؟ قد رديت عليك.
وكل الذي كان مطمنّي في الموضوع ضحكتها، وأرقد وأقوم وأنا أقول لنفسي الضحك علامة الرضا، لكن علاقتي معها استمرت تسير بنفس الرتابة وما معيش أي هدار بعد آي لاف يو، ومشنا داري كيف أعبر لها عن حبي الواقف عند حدود اللغة المختلفة عن لغتي.
وعليها كلما أشوفها في السرحة والجية وأنا هاذاك الأعجم، وما معي من الهدار في الحب غير آي لاف يو.. آي لاف يو “لما ضبحت مني وضاقت من علاقتي وبطلت حتى تبتسم لي أو حتى تقولي “مي تو”.
وضقت أنا والكل مني، وضاق حالي من المنهج المدرسي اللي ما خارجني لا طريق، وأكثر ما كان مضبح بي صراحة هو أن “آي لاف يو” نفسها ما كانتش موجودة في كتب المنهج المدرسي حق الاعدادية كلها! وأنها كانت تعتبر كلمة عيب واحد يقولها أو يكتبها عرض أي جدار في الفصل ولو شافك الأستاذ، وأنت كاتب بدفترك “آي لاف يو”، مش بعيد يعملك مشكلة أخلاقية قد تستدعي طلب حضور ولي أمرك إلى المدرسة بسببها.
وضقت أكثر من فكرة الانتظار لما أوصل صف ثالث ثانوي عشان أعرف أيش هي “مي تو”، وتعقدت العلاقة بيني وبين روبي بسبب أنو ما فيش معي هدار أقوله لها، وكرهت المنهج المدرسي وحسيت في لحظة ضجر إن العالم الخارجي بكله شيطير من يدي فيما أنا عاشق أعجم اللغة ومشنا داري ما هو الهدار الذي يفترض أن يقال للمحبوبة مباشرة وبكل طلاقة واسترسال من بعد “آي لاف يو” تلك الكلمة العالمية الشهيرة الرائجة اللي وضعتها في المخطط العام لعلاقتي الغرامية مع جارتنا الأعجمية مثل حجر أساس لمشروع حب متعثر يشتي له هدار.
وما كان معي حينها للتمسك بحلم الهدار مع روبي إنجليزي ومعرفة أيش هو الذي يجي بعد “آي لاف يو” إلا أن أواسي نفسي بما تيسر لي من ضحكتها مؤجلاً حلم الهدار والمجبر الطويل معها إلى حين ميسرة ! إلى هاذيك اللحظة المرتقبة التي شاكون قد وصلت فيها بحمد الله وسلامته، بعد خمس سنوات إلى الصف الثالث الثانوي محطة الانطلاق المهمة إلى العالم ولكن الذي حدث فيما بعد وأنا طالب في الصف الثالث الإعدادي “تاسع” كان محبطًا للغاية!
غادرت روبي مع عائلتها من الحارة فجأة إلى وجهة أخرى لا أعرف عنها شيء، ولا لي علم أين سارت ولا أين أراضيها، ولا إذا ما كانت ستعود مع الوقت إلى الحارة أو ماشي، وحسيت بإن العالم أغلق بيبانه في وجهي وحزنت وورث لي غيابها المفاجئ سأم كبير من أي هدار سأسمعه باللغة الإنجليزية، على أي لسان آخر غير لسانها أو عبر أي صوت آخر يتكلم الإنجليزية غير صوتها، وفقدت الرغبة تمامًا من بعد ذلك في مواصلة تعلم الإنجليزية أو فهمها أو المواظبة على دروسها.
وضمرت شجرة اللغة العالمية في طين قلبي، وشعرت أيضًا بأنه ماعد فيش داعي حتى لمواصلة حلمي الكبير في الهدار باللغة الإنجليزية لأن “روبي” ماعد هلهاش أصلاً في الحارة، ولاعد بو أساسا مع من شتكلم وأرطن هدار إنجليزي.
وكنت في صف أول ثانوي على أية حال عندما عرفت من فيلم أجنبي شفته في السينما أيش هو معنى “مي تو”، ولكن ما الفائدة أصلاً؛ وبعد أيش؟ كانت روبي العالمية الجميلة قد اختفت تمامًا من حياتي وفي غيابها لم أعد أهتم مطلقًا بمعرفة أيش هو الهدار الذي يجي بعد “آي لاف يو”.
*كاتب يمني ساخر.
تعليقات