عدنان بيضون*
أميركا ترزحُ تحت وطأة فايروس كورونا، وأزمة بطالة تاريخية سببها الوباء، التي لم تشهد مثيلاً لها منذ أزمة الكساد العظيم، مطلع ثلاثينيات القرن الماضي.
اليوم انتهت صلاحية إعانات البطالة الفيدرالية الطارئة، والبالغة 600 دولار أسبوعيًّا لذوي المداخيل المتوسطة والمتدنّية.
لم يفلح مجلس الشيوخ ذو الأغلبية الجمهورية في التوافق مع إدارة ترامب على صيغة جديدة للاستمرار بمساعدة العاطلين عن العمل، الذين تُقدّر أعدادهم بنحو 25 مليونًا.
يتّجه الكونغرس إلى تجديد الإعانة المالية الطارئة للعائلات الفقيرة ومتوسطة الحال، بمقدار 1200 دولار للشخص البالغ، و500 دولار للأطفال دون سِنّ السادسة عشرة، لكن هذه المساعدة التي منحها الكونغرس وأقرها الرئيس في بداية الأزمة لن تُسعف هذه العائلات، حتى على المدى القصير.
ثمّة معضلة خطيرة تُهدّد الأمنَين (الاقتصادي والاجتماعي) للأميركيين، هذه المعضلة تتمثل بشريحة لا يُستهان بحجمها في أوساط فئات من الشعب الأميركي.
هؤلاء لا يزالون يتمردون على التعليمات والنصائح، وحتى على الأوامر التنفيذية الصادرة عن بعض حكام الولايات بشأن الوقاية من الفايروس، وخصوصًا ارتداء الكمامة، والحفاظ على التباعد الجسدي في الأماكن العامة المفتوحة، وأيضًا في الأماكن المغلقة.
نظريات المؤامرة حول الفايروس منتشرة على نطاق واسع في السوشيال ميديا، وتساهم في نشرها محطات تلفزة محلّية.
رئيس المركز القومي لمكافحة الأوبئة الخبير المخضرم أنثوني فاوتشي صرّح البارحة، في مقابلة تلفزيونية، أنه يتعرض هو وأفراد عائلته إلى التهديد بالقتل؛ لإصراره على الحذر في إعادة فتح القطاعات الاقتصادية، وتوصيته الأخيرة بضرورة إلزام الناس بارتداء الكمامات لأجل حماية أنفسهم والآخرين.
الأميركيون، السالف ذكرهم، متواجدون في كلّ الأمكنة، وينطقُ باسمهم ناشطون سياسيون، ولهم “أجنحة عسكرية” يستعرضونها أمام المؤسسات التشريعية وفي داخلها مثلما حصل قبل أسابيع قليلة في مبنى كابيتول، ولاية ميتشيغان، وولايات أخرى.
بعض هؤلاء عندما يُسألون عن عدم التزامهم التباعد الاجتماعي يردُون بأنّ الفايروس كي يذهب عنّا يجبُ أنْ نُكثّف حضورنا في الكنائس لأجل القضاء عليه، والشفاء منه..!
معضلة أخرى لا تقِلّ أهمية، تتمثل بعدم ثقة هؤلاء الناس بمبدأ اللقاح من أساسه.. ستواجه أميركا تمرّدًا على اللقاح الموعود عندما يرفضُ ملايين الأميركيين تناوُل اللقاح، إما لاعتبارات دينية، أو لأخرى تتصلُ بما يرونه مؤامرة لإخضاعهم، تهدف إلى تقليل سكان الكرة الأرضية كي يتسنّى لنسبة الـ 1٪ التحكّم بالباقين، وجعلهم “عبيدا ” لديهم(…).
وهذا التمرد الذي يجاهرُ به ناشطون دينيون يهدّد النتائج المتوخاة من أيّ لقاح منتظَر، ويجعله قليل النجاعة، إذا لم تتناول نسبة 60٪ من الناس اللقاح كحدّ أدنى للوصول إلى ما يُسمّى “مناعة القطيع”.
لقد حاول الرئيس الأميركي لأشهُر إنكار حقيقة الوباء، وزعم أنه مجرد انفلونزا بسيطة ستختفي بسرعة. سخِر ترامب من الكِمامة، ثم عاد وأقرّ أخيرًا بأهميتها، وظهر على الإعلام وهو يرتديها.
ستكون أميركا أمام مهمة شديدة الصعوبة في مواجهة رافضي اللقاح، وسوف يحاذرُ الكثيرون من الساسة والمشرّعين إغضاب بعض جمهورهم والمغامرة بأصواتهم الانتخابية.
لقد كشفت أزمة الوباء هشاشة النسيج الأميركي أمام الأزمات الكبرى، وأنّ أميركا ليست واقعًا كما يفيد قسَمُ الولاء لعَلَمِها الذي يتلوه تلامذتها الصغار كلّ صباح “أمة واحدة، تحت الله غير قابلة للقِسمة مع الحرية والعدالة للجميع..” وكان مثيرًا للدهشة والغرابة اندلاع سِجالات “إقليمية” عبر حدود ولايات لم يكن أحد ينتبه إلى وجودها، ومبادرة بعضها إلى فرض قيود على سكان ولايات مجاورة على خلفية النظرة المتباينة إزاء التعاطي مع الوباء وسُبُل مكافحته.
تعيشُ أميركا في هذه الآونة حالة من الرّيبة النادرة حول لُحمَتها وتماسك مكوناتها العرقية والإثنية، وتتطلب إزالتها جهودًا جبّارة من الحكومة الفيدرالية في ظل إدارة جلّ همّها الفوز بولاية ثانية في الانتخابات القادمة.
وحالة الانقسام السياسي الراهنة لا تقتصر على ثنائية الحزبين (الجمهوري والديموقراطي) اللذين تدوالا السلطة منذ أكثر من مئتي عام. كان على الرئيس “الجمهوري” في الأيام الماضية أنْ يخوض مفاوضات شاقّة مع مشرّعين من حزبه في مجلس الشيوخ للوصول إلى إقرار حزمة مساعدات مالية جديدة لملايين الأميركيين الذين فقدوا مصادر دخلهم بسبب الوباء.
لم يسبق أنْ خاطَب رئيس أميركي “شعبه الواحد” بمنطق (فلتدبّر كلّ ولاية أمورها) خلال أزمة تهز أركان المنعة الاقتصادية من أسسها.
ولم بسبق أنْ خاض رئيس أميركي في سجالات علنية مع حكام ولايات وتوجيه تأنيب إليهم، وحتى إلى درجة التهديد باستخدام القوة في إخضاعهم لأجّندته.
تترافق كلّ هذه التطورات مع تطور بالغ الخطورة يتمثل بتمظهُر قوي للعنصرية ومجاهرة الرئيس بأنّ الضواحي المزدهرة على أطراف المدن المهمَلة باتت مهددة، في أصرح إشارة إلى التمييز العنصري المرعي من أعلى الهرم الفيدرالي. تبدو “عظمة أميركا” التي صدع دونالد ترامب رؤوسنا في العمل على استعادتها مقتصرة على تكريس ذلك التمييز العنصري التاريخي الذي لم تُشفَ أميركا منه، وبدا مفضوحًا بصورة غير مسبوقة مع تركز العدد الأعظم لضحايا الوباء في البيئات المدنية التي يقطنها الملونون، وذوو الخلفيات الإثنية والعرقية الأكثر فقرًا وحرمانًا من الموارد والرعاية الصحية.
ثمة تغيير بنيوي حتمي تتطلبه عملية استعادة أميركا من براثن الانحلال التي تحوم في الأُفق، والتي أظهرها الوباء الحالي في أوضح تجلياتها، والعهدة في هذا التغيير هي على مؤسسة الحزب الديموقراطي الذي استمعنا قبل أيام إلى مرشحه الرئاسي جوزيف بايدن متحدّثًا عن رفع الظّلْم والإجحاف الممارسين ضد مسلمي البلاد، والذي تعهد علنًا بإشراكهم في أعلى مناصب إدارته في حال فوزه، هذا فضلاً عن تعهّده العَلني وغير المسبوق في الحملات الانتخابية باختيار امرأة ملونة كنائبة رئيس.
صورة أميركا البائسة في زمن الوباء أذهلت العالم بأسره، الذي كان يتطلع إليها “كمنقِذٍ جبّار”، واستعادتها تتطلّب أكثر بكثير من وعود انتخابية يطلقها الديموقراطيون.
إنها بحاجة ماسّة إلى تعزيز ودفع التيار التقدُّمي في الحزب الديموقراطي الذي أطلقه المرشح المنسحِب من السباق بيرني ساندرز، ويحظى بتأييد واسع في صفوف الشّيبة وطلبة الجامعات.
فهل يبادر الحزب الديموقراطي إلى الإمساك الحقيقي بزمام الفرصة التاريخية المتاحة أمامه أم يكتفي من الغنيمة بإخراج دونالد ترامب من البيت الأبيض والإبقاء على أميركا في غرفة الطوارئ عوض إدخالها إلى غرفة العناية الفائقة التي يستوجبها وضعها الراهن؟.
من صفحة الكاتب في فيسبوك*
تعليقات