Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

ولدتُ في تهامة، في مدينة يُلقبونها بعروس البحر الأحمر، ولكنها عروس تُعاني من الحُمَّى وارتفاع درجة حرارتها، تسمع عن الشتاء ولا تعرفه.

خرجتُ إلى عالم المجانين هذا في شهر فبراير، وهو أكثر شهور السنة اعتدالاً، وتعصر فيه السماء الحييّة مئزرها لتحظى الشوارع والأرصفة بقطرات نادرة من المطر.

أمي هي التي منحتني اسمي. حَبِلتْ بي بعد ثماني سنوات من اليأس. لقد انتظرتني طويلاً، فلتسامحني على ترددي ومخاوفي وتشاؤمي من الإتيان إليها سريعاً. لقد تاقتْ لي كثيراً منذ السنة الأولى لزواجها، ولاشك أن عادتي اللعينة في المجيء متأخراً قد أثارتْ قلقها.

في العام التالي أنجبتْ أمي فتاة كالقمر، وبذا بدا أن أمانيها المحدودة في الحياة قد تحققتْ.. كان القاتل الهادئ الأعصاب يتحرك ببطء مخاتل ليقبض روحها. آخر شيء عملته من أجلي قبل وفاتها هو خوضها صراعاً مع مدير مدرسة ابتدائية لأجل قبولي للدراسة، رغم أني لم أُكمل ست سنوات، وبالطبع تمكنت هذه الأم التي لم ينل المرض من عزيمتها من الفوز بمطلبها.

كانت تُعالج من السرطان في مدينة أخرى، لم نختلط بها في شهورها الأخيرة، وكان يُسمح لنا بزيارتها في عطلة نهاية الأسبوع. كنت أترقب هذه الزيارات، لأن أمي كانت تُقدم لي هدية جديدة في كل مرة. في آخر زيارة وهي تحتضر أهدتني كرة قدم، أتذكر أن أحدهم ناولني تلك الكرة، لأنها لم تعد تستطيع الحركة.

عندما توفيت، سُمح لي ولشقيقتي بأن نُلقي عليها النظرة الأخيرة، وهي في كفنها، وأن نطبع على خدها قبلة الوداع.

لم أشعر وقتها بالحزن على فراقها، ولم أشعر به طيلة السنوات التي تلتْ، رغم أنني مررتُ بمواقف عديدة مؤلمة قد تجد النفس السلوى في استدعاء طيفها، ولكنني لم أفعل، لقد محوتُ ذكراها منذ غابتْ محفتها في عربة الإسعاف.. لم أحفل كثيراً بموتها، لقد كنت مشغولاً بنفسي وبألعابي وغارقاً في عالمي الطفولي الخاص، وقررتُ تناسيها.

هل أنا مذنب؟ إنني نادراً جداً ما أتذكرها.. قد تمضي الأعوام ولا تخطر ببالي حتى مرة واحدة. وربما لولا اضطراري إلى كتابة هذه الصفحات لما تطرقتُ إلى ذكرها! لكنني مدين لـ”فعل الكتابة” هذا باستعادتها وتذكر بهاء حضورها.. وتذكر كم كانت أماً رائعة جداً إلى درجة أنني لا أستحقها. الحب الذي أحبتني لا يمكن وصفه بالكلمات.. الآن وأنا أكتب أُدركُ أنه من المستحيل أن نصادف هذا القدر اللامحدود من الحب مرة أخرى في حياتنا مهما امتدت، ومهما جاد علينا القدر بآخرين يكنون لنا مشاعر الحب.

لعلي أمتلكُ قلباً قاسياً، لأنني أقصيتها عمداً من ذاكرتي، ووضعتها في صندوق مقفل بإحكام وألقيته في البحر لأتخلص من ذكراها.. ويبدو أنني أحرزتُ نجاحاً باهراً لدرجة أنها لم تعد تحضر لا في يقظتي ولا في منامي.. حتى عقلي الباطن استجاب لإرادتي الحديدية.

لكن هذه الأم التي أوصدتُ كل الأبواب في وجهها لم تستسلم، وكانت تتواصل معي عن طريق حضورها في أحلام الآخرين.. شقيقتي كانت تحلم بها باستمرار، وتخبرني أنها تسأل عن أحوالي. زوجتي التي ولدتْ بعد وفاتها بأعوام أخبرتني أنها رأتها في المنام حزينة جداً لأنني لا أزورها.. وآخرون رأوها في أحلامهم لا يتسع المجال لذكرهم قالوا إنها تسترسل في الحديث عني.

لا أستطيع الآن إلا التفكير في شيء واحد بشأنها: لقد قامت بواجبها نحوي حتى بعد وفاتها، ولقد شعرتُ دوماً في الأوقات العصيبة بحضور شيء غير مرئي يمنحني الحماية.

أولى هواياتي كانت الرسم، كنت أجمعُ الورق المقوى الذي يخص التقويم السنوي – بعد نزع أوراقه- وأرسم في الجهة الخلفية. كنت مهووساً برسم العالم في لوحة واحدة. جميع الذين شاهدوا تلك الرسوم لم تلفتْ انتباههم، باستثناء شاب من خارج العائلة، – كان يمارس رسم الوجوه كهواية- قال إن رسمي رديء، لكن الفكرة جيدة؛ لقد نالت إعجابه وانبهر بها.. وربما كان هذا أول ثناء أحصل عليه مقابل عمل فني بذلتُ جهداً في تنفيذه.

في الأعياد والمناسبات، حين تجتمع العائلات، كنا نحن الأطفال نقوم بأداء تمثيليات، وكانوا جميعاً يطالبونني بارتجال قصة، ولم أكن أجد مشقة في ذلك؛ ولكن أحياناً كنت أُثيرُ سخطهم حين تتوقف التمثيلية في منتصفها، ويسألونني ماذا يحدثُ بَعْدُ؟ فأردُ بأنني جائع، وعندما أكون جائعاً فإن الأفكار لا تصعدُ إلى رأسي بل تبقى حبيسة في المعدة، وحينئذٍ يتدبرون قطعة شوكولاتة فازدردها وهم لي حاسدون!

أحدهم وقد استشاط غيظاً من نذالتي، طالبني بأن أكتب قصة التمثيلية كاملة على الورق وأحتفظ بها للمرات القادمة؛ ويبدو أنني مدين لهذا الولد الذي يكبرني ببضعة أشهر بإرشادي إلى مهنة الكتابة.

والدي كان مقاولاً ميسوراً، درس القراءة والكتابة في “المعلامة” ولم يلتحق بالتعليم النظامي. اشتغل في أول عمره فلاحاً، وعند قيام الثورة في عام 1962 التحق بجيش الجمهورية وأُرسل إلى مدينة زبيد؛ وأبرز مهمة أُسندتْ إليه في تلك المدينة المسالمة هي تلقيم وضرب المدفع في الأعياد الوطنية، وفي شهر رمضان.

ترك والدي الجندية لأنها لم تكن تلائم مزاجه، وعمل في أية مهنة يُصادفها؛ وبذا زاول العديد من المهن المتعلقة بالبناء، وراكم الخبرة العملية التي مكنته لاحقاً من العمل مقاولاً.

كان رجلاً مثقفاً ثقافة موسوعية ومُحباً لاقتناء الكتب، وكوّن مكتبة فيها أكثر من ألف كتاب. وما زلت أتذكر عندما كان يأخذني معه إلى صديقه المكتبي ليريه أحدث ما وصل إلى مكتبته من إصدارات، ليختار منها ما يثير اهتمامه أو ما قد يراه مفيداً لي في المستقبل.

لقد حرص والدي على تثقيفي وإثارة شغفي بقراءة الكتب بشتى الوسائل الممكنة، واشترى لي أيّ كتاب استشرف أنه قد يُثري ثقافتي ولو لم يكن يتفق مع ميوله الخاصة.

كان والدي يأمل أن أصبح مهندساً معمارياً؛ أتذكر أنه كان يأخذني معه في زياراته للمكاتب الهندسية، لكي أُحدق في أولئك الأساتذة المهذبين الأنيقين وهم يعملون على مكاتبهم المائلة، وعقب خروجنا وهو يتأبط تلك اللفائف الأسطوانية كان يسألني “ألا ترغب أن تكون مهندساً؟”. كنت ألزم الصمت متظاهراً بأنني أُفكرُ جدياً في الأمر، ولكن في داخلي شعرتُ بالنفور من تلك المهنة، والشيء الوحيد الذي أثار إعجابي هو رائحة ورق الخرائط.

بعد تشطيب المبنى وتسليم المفتاح للمالك، كان والدي يُهديني الكروكي، ويطلب مني أن أدرسها  وأستنسخها. أعتقد أنني خيبتُ أمله مرتين، الأولى حين لم أحمل الاسم الذي اختاره لي “إسماعيل”، والثانية حين رميتُ وراء ظهري أمنيته في أن أصير مهندسا، واستخدمتُ ورق الخرائط في تصميم ألعاب ورقية!

كنت مولعاً في صباي باللعب بالألعاب الورقية التي قمتُ بتصميمها، ولكن لأنها لم تُعجب أحداً، فقد كنت مضطراً أن ألعب مُقسماً ذاتي إلى لاعبين أو أكثر، وبعض أدوار هذه الألعاب كان يطول أياماً، ولا مناص أن ينتبه والدي إلى ما كنت أفعله بخرائطه، فكان يضرب كفاً بكف ويسلقني بنظرات ملؤها اللوم والعتاب، ثم يمضي متحسراً محوقلاً.

سمعتُ كثيراً عن لعبة الطاولة، فاشتريت واحدة؛ ولسوء الحظ أن هذه اللعبة لا تُرفق معها قوانين اللعب، ولأن هذه اللعبة ليست شائعة في اليمن، ولا أحد ممن أعرف قد لعبها، فقد اضطررتُ إلى ابتكار قوانين للعب بها، ودونت تلك القوانين في ورقة لكيلا أنساها. ثم زارنا أحد أعمامي الذي أكن له احتراماً كبيراً ولمح الطاولة، فطلب أن أُحضرها وأن أُعلمه قوانينها؛ وقضينا وقتاً ممتعاً في اللعب، وعاد إلى مدينته الباردة سعيداً ومنتشياً بالانتصارات التي أحرزها عليّ. ولكنه بعد أشهر زارنا مرة أخرى بمناسبة عيد الفطر، وأخبرني أنه التقى في المقهى بمصري، وعندما أراد أن يلعب معه الطاولة فوجئ بأن لها قوانين مختلفة تماماً! ثم وقع سؤاله على رأسي كضربة هراوة: “من الحمار الذي علَّمك اللعب بتلك الطريقة؟”. ولشدة شعوري بالحرج لم أخبره بالحقيقة.

عندما علم والدي بنتيجتي الطيبة في امتحانات الصف السادس الابتدائي، يبدو أنه قد اندهش من نجاحي أكثر مني، وندم على تعييره لي بأنني ولد فاشل يُضيع وقته في اللهو والعبث، وقرر أن يُكفِّر عن تقريعاته اللاذعة بشراء هدية ارتأى أنها قد تكون نافعة لي في المستقبل. مازلت أتذكر حينما طلب مني أن أصعد إلى السيارة لكي أُرافقه في جولاته المسائية الروتينية لتفقد هياكل المباني قيد الإنشاء التي تقاولها، ولكنه في ذلك المساء أوقف السيارة أمام مبنى مكتمل البناء، حداثي التصميم، ووراء واجهاته الزجاجية آلات كاتبة من مختلف الأحجام والماركات. استمع إلى شرح مسهب من البائع، ثم انتقى واحدة يمكن حفظها بداخل حقيبة سوداء مصنوعة من الفايبرجلاس وتشبه كثيراً حقائب السامسونايت، وطلب مني أن أحملها.

وفي طريق العودة كان الفضول يعذبني لمعرفة الغرض من شرائها، ولكنني لم أجرؤ على سؤاله خشية أن أنفجر باكياً إذا لم يكن قد اشتراها لي؛ وفي البيت أعلن بطريقة احتفالية أن تلك الضيفة القادمة من أقاصي البحار ذات الأسنان المُتكتكة هي هدية نجاحي.

لقد انتابتني الوساوس حول لعبتي الجديدة، واحترتُ كيف ألعب بها!

بالطبع خطر ببالي أن أؤلف قصصاً، ولكن بئر الحكايات في دماغي كان جافاً تماماً؛ وشعرتُ بالعجب من أولئك القوم الذين يغرفون القصص من عالم الخيال غرفاً مُغدقاً، بينما أُدلي بدلوي فلا أظفر بقطرة.

أول قصة ارتمتْ في أحضاني جاءتني أثناء فترة الاختبارات نصف السنوية، وبدلاً من أن أُركز على مراجعة الدروس، وجدتني منساقاً إلى اللعب بآلتي الكاتبة لتسويد عشرات الصفحات. لقد شعرتُ بلذة عارمة حين أكملتُ تأليف القصة، ورسختْ في داخلي منذ ذلك الحين قناعة تامة بأن “الخيال الأدبي” هو أفضل لعبة جربتُ لعبها على الإطلاق، فعزمتُ على التمسك بلعبة “الكتابة” حتى آخر نَفَسٍ أتنفسه.

لقد كان هذا قراراً سرياً، لم أُفشه لأحد، وبالخصوص لوالدي، لإدراكي أن ما نويت القيام به في المستقبل – كتابة الأدب- لا يُعدُ عملاً جاداً في نظر أيّ أحد، وأيّ نقاش سأخوضه كنت سأخسره بكل تأكيد؛ وأكثر شيء كنت أخشاه هو أن أسمع كلاماً يُثبطُ من عزيمتي، أو أن أتلقى عروضاً مغرية تصرفني عن الكتابة، وهو ما حدث فعلاً فيما بعد.

ما قدح شرارة الكتابة عندي مصدر غير متوقع: كتاب بورق مصقول وألوان زاهية عن بريطانيا.

احتوى الكتاب على فصل عن الملكية البريطانية وتاريخها، فوقع سحر ما في نفسي.. فإذا بي أكتب بمرونة وسرعة – وآلتي الكاتبة تلهثُ محاولة مجاراتي- قصة تدور أحداثها في إنجلترا القرن التاسع عشر، عن شاب يعمل في مناجم الفحم تُسخطه أوضاع العمال المزرية، فيقود ثورة ضد الملكة.. يتم التصدي للثائرين والزج بهم في السجون؛ وتستدعي الملكة قائد الثوار، وتُنصتُ إلى مطالبه العادلة، وتُقررُ القيام بالإصلاحات. رجال الحاشية يُدبرون مؤامرة لاغتيالها، تنجو الملكة من محاولة الاغتيال، وتنضم إلى صفوف الثوار وتغدو هي قائدة الثورة!

وضعتُ كلمة “تَمَّتْ” قبل انتهاء الامتحانات، وعنونتها بـ”ملكة إنجلترا”.

لا أُؤمن بعقيدة “تناسخ الأرواح”، ولكن هبوط الوحي الأدبي الذي بدأ من هذه النقطة تحديداً دون سواها ما يزال يثير فيَّ جملة تساؤلات حتى اليوم..

في عام 2005 زرتُ القاهرة للمرة الأولى ومعي صديق يمني سبق له أن زارها من قبل عدة مرات، وفي أول يوم لنا هناك كنت أرشده إلى الاتجاهات بطريقة صحيحة أثارت استغرابه، وأخذ يرتاب في أقوالي بأنه لم يسبق لي أن وضعتُ قدماً في مصر.. بعد أن استرحنا في الفندق وهدأتْ نفسي من الانفعالات القوية المباغتة، اختفتْ تلك المعرفة بالمدينة وشوارعها والشعور الغامض بأنني قد عشتُ فيها من قبل.

هذه التجربة الغريبة التي دامت لساعات فقط – ولا أعرف لها تفسيراً- قد تفتح باباً للظنون.. وإذا تصورنا فرضاً صحة عقيدة “تناسخ الأرواح” فهذا يومئ إلى أنني كنت إنجليزياً في القرن التاسع عشر، ومصرياً في النصف الأول من القرن العشرين، ويمنياً في نصفه الثاني ومطلع القرن الذي يليه.. إنه مسار يتسلسل من شمال الكرة الأرضية ويتجه جنوباً، ولربما في تجسُّدي القادم سأكون مواطناً مالديفياً، ولكن بشرط ألاَّ يؤدي الاحترار العالمي إلى ذوبان جليد القطب الجنوبي وغمر تلك الجزيرة الفاتنة تحت مياه البحر.

من أوائل القصص التي قرأتها ونفذت إلى صميم فؤادي هي “سيرة فارس اليمن الملك سيف بن ذي يزن”. لقد فُتنتُ بهذا المجتمع العجيب الذي يعج بالسحرة والجن والعفاريت والأبطال من شتى الأنواع، وأسرتني شخصية “عاقصة” شقيقة الملك سيف التي كانت بمثابة الملاك الحارس لشقيقها الإنسي.

قرأتُ قصص “ألف ليلة وليلة”، وظللتُ ثلاثة أشهر أُعاني من آلام العشق المبرحة، رغم أنه لم تكن في بالي فتاة محددة أهيم بها، ولكن تحت التأثير الهائل للكتاب شعرتُ بكافة أعراض الغرام، وكنت أتنهد بحرقة كلما لاح لي خيال امرأة!

كنت قارئاً نهماً لمجلات الأطفال، واقتنيتُ ما وسعني من مجلدات ميكي وسمير وتان تان وغيرها. أتذكر أن يوم الأربعاء كان أسعد أيام الأسبوع عندي، وأنتظر شروق شمسه بلهفة؛ كنت أسعى إلى المكتبة عدة مرات، حتى أحصل على نسخة من مجلة ماجد وهي طازجة، ورائحة الورق والأحبار ما تزال تفوح منها. حين أستعيد الآن رائحتها فإن الشعور بالنشوة يتدفق إلى دمي.

كنت أعتمدُ على حاسة الشم في التمييز بين المجلة الممتعة والمجلة المملة الثقيلة الدم؛ لقد كان أنفي هو الناقد الأدبي الأول الذي صادفته في حياتي، وأكاد أجزم أنه ناقد نيِّق يصعبُ إرضاؤه، ولا يقل تبجحاً وتشامخاً عن رولان بارت.

من الأعمال التي قرأتها وتركتْ فيّ أثراً عميقاً رواية “قصة مدينتين” لتشارلز ديكنز. لا أعرف لماذا منذ التهمتها والسيد ديكنز يحضر في أحلامي.. في المنام لا أبصر وجهه، ولكني أسمع صوته وهو يروي حكاية. واحدة من تلك الحكايات التي رواها تذكرتها بعد يقظتي ودونتها في مفكرة، ولاحقاً كتبتها في صيغة قصة قصيرة.

حكاية أخرى أحضرها لي السيد ديكنز في الحلم، تصلح أن تكون رواية كوميدية فاحشة.. تعرفون خفة دم ديكنز فما بالكم إذا تخلى عن وقاره! ولكن كمية المجون فيها جعلتني أؤجل كتابتها إلى أجلٍ غير مسمى.

هل خمنتم ما خمنته؟ وكأن السيد ديكنز راودته أفكار قصص غير محتشمة، ولكنه أبقاها حبيسة في قبو مغلق بداخل روحه مراعاة للمجتمع الفيكتوري المتزمت أخلاقياً.

تسبب فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل عام 1988 في إقلاعي نهائياً عن شراء ومطالعة مجلات الأطفال. ذهبتُ كعادتي كل أربعاء إلى المكتبة لشراء مجلة ماجد التي تصدر من أبوظبي وتصل بالطائرة، ولكنها في ذلك اليوم تأخرت كثيراً. صاحب المكتبة وكان شاباً سودانياً مثقفاً سألني إن كنت قد قرأتُ قصصاً لنجيب محفوظ، فأجبته بالنفي، أنزل من الرف المجموعة القصصية “حكايات حارتنا” ونصحني بقراءتها. دفعتُ ثمنها والشكوك تساورني بأنه تحاذق عليّ وباعني كتاباً لم يجد له مشترياً منذ دهر. أتيتُ على المجموعة القصصية في ليلة واحدة، وصحوت من النوم في اليوم التالي وفيّ رغبة شديدة للإمساك بسحر محفوظ.

متأثراً بالمشاعر الوطنية الفياضة التي اجتاحتْ اليمنيين بمناسبة تحقيق الوحدة بين الشطرين الشمالي والجنوبي في مايو 1990 كتبتُ “الومضات الأخيرة في سبأ” وهي رواية تاريخية، وكما يتضح من عنوانها فإنها تتحدث عن انهيار سد مأرب عام 115ق.م، وهو الحدث الذي ألحق دماراً نهائياً بعاصمة البلاد، وأدى إلى هجرة القبائل اليمنية إلى العراق والشام؛ ومنذ ذلك الوقت تقريباً أخذت مكانة اليمن السياسية والعسكرية والاقتصادية في التدهور والانحطاط.

هذه الرواية – الأولى- لم أنشرها حتى اليوم.. أعدتُ كتابتها عدة مرات في مراحل عُمرية مختلفة، ولكني لم أرض عنها ومزقتُ مسوداتها، لكيلا أضعف أمام إغراء إرسالها إلى المطبعة.

توصلتُ إلى استنتاج مفاده بما أن السبئيين في زمنهم كانوا يعبدون إله القمر (إلمقه) فإنني لن أتمكن من فهمهم حق الفهم حتى أعتنق عقيدتهم! وهذا التقمص العقائدي المتوجب القيام به طيلة فترة كتابة الرواية يتطلب أن أُلمَّ إلماماً عميقاً بديانتهم وشرائعها، وطقوسهم في التضحية، ودور الدين في حياتهم اليومية. وفكرتُ أن تجربة كهذه – أيّ الخروج من ملة إلى ملة أخرى- يُفضلُ تأجيلها إلى مرحلة عمرية متقدمة، حين تُنضجُ الشيخوخة العقل فلا يهلع من هذه الرحلة؛ وقدَّرتُ أنه في كل الأحوال لا ينبغي أن يمتد أمد كتابة المسودة الأولى لأكثر من شهر واحد.

بعد نجاحي في الثانوية العامة التحقتُ بالجيش لأداء الخدمة الإلزامية ومدتها عام واحد، وعلى عكس توقعاتي، كانت سنة مثمرة كتابياً، وعدتُ من المعسكر بدفترين سميكين عششتْ فيهما عشرة جنيات من جنيات الأدب، وطيلة سنوات لاحقة ظلت تلك الجنيات تبيض المزيد من القصص؛ وإحداها لم تتوقف عن النمو حتى صارت بحجم بيضة طائر الرخ، وفقستْ عن رواية “فيلسوف الكرنتينة”.

كان بجوار المعسكر تلال مغطاة بالأشجار الشوكية منظرها كئيب، يُقال إنها مسكونة بالجن! طفتُ بها عدة مرات نهاراً ومرة واحدة ليلاً.. الحقيقة أنها موحشة إلى درجة يصعب حتى على الجن أن يرضوا بالسكنى فيها.

أوحت لي تلك التلال بقصة عن الجن.. وبعد عشرين عاماً نشرت كتاب “وادي الضجوج” وفيه دزينة قصص تتحدث كلها عن الجن، عندما تتقاطع حياتهم مع حياة البشر في مواقف معينة كما تخيلتها الذاكرة الشعبية.

في الجامعة بدأتُ أنشر قصصي في الصحف والمجلات، كنت حريصاً على ألاَّ يعلم أحد من زملائي أو أساتذتي بهذا الأمر. كنت أود أن أُزقزق ولكن من دون أن ألفت الانتباه إلى مصدر الصوت.. حتى أن المشرف على أهم ملحق ثقافي في اليمن الذي كان ينشر قصصي كنت أراه في حديقة الكلية جالساً مع لفيف من المثقفين، ولكنني لم أجرؤ على الدنو منه، واكتفيتُ بإرسال قصصي إليه عبر البريد.

كنت شاباً خجولاً، ويُخجلني بشدة أن يعرف الآخرون أنني كاتب.. كان هذا يساوي أن يُقال عنك أنك أحمق! لكن بمرور السنوات عرف الذي يعرفني والذي لا يعرفني بهذه “الفضيحة” فلم أعد أُبالي بحماقتي ولا أخجل منها.

في اليمن شيء مخجل أن تكون كاتباً.. لأنها مهنة لا تجلب مالاً.. لا تستطيع أن تعول أسرة من مردود كتبك. في اليمن لابد أن تكون غنياً أو لديك مصادر دخل أخرى لكي تنفق على مشروعك الأدبي.. لا الدولة تهتم بالأدب ولا المواطن يشتري الكتب، وعلى الكاتب أن يتحمل هذه “المصيبة” وحده، ويدفع ثمنها من جيبه الخاص؛ وإذا جازف أحياناً بقول الحقيقة، أو أظهر جزءً يسيراً من الحقيقة، فإنه قد يتحمل كلفة إضافية.. فقد يخسر أمانه الشخصي، أو مصدر عيشه، أو حياته ذاتها، لأجل مجتمع لا يُبالي به، ومع ذلك قد يفعلها ليريح ضميره.

*روائي يمني.

   
 
إعلان

تعليقات