Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

درس توني التمثيل والإخراج في الأكاديمية الملكية للفنون المسرحية بلندن، وسطع نجمه في إنجلترا حين لعب دور عطيل في مسرحية شكسبير الذائعة الصيت.

عاد توني مواندا إلى أوغندا، وحصل على وظيفة أستاذ المسرح في جامعة ماكيريري.

قام هذا الشاب العبقري بتكييف مسرحية شكسبير “هملت”، وجعلها معاصرة ومناسبة للبيئة المحلية، وعرضت مسرحيته على خشبة المسرح الوطني الأوغندي، فلاقتْ نجاحاً مذهلاً وأضحت حديث الناس في كمبالا.

قدم بعدها مسرحية “مريض الوهم” لموليير، فحقق شعبية جارفة، وغدا الأوغندي الأكثر شهرة في بلده؛ وتجرأ بعض الأوغنديين المُغالين على السجود له تعبيراً عن الإعجاب الشديد بفنه.

يُقال إن السر في حباله الصوتية، فصوته جهوري رنان مثل آلة الكمان.

لكن هذا النجاح السريع أصابه بدوار المرتفعات، وأمسى يُعاني من جنون الارتياب.. زعم أنه يتلقى اتصالات يومية من مجهولين يستهزئون به، وأن مجنوناً يظل طوال الليل يحوم حول بيته وهو يشتم بألفاظ نابية فلا يدعه ينام دقيقة واحدة. فإذا تنفس الصباح أتى مجنون آخر صوته أنكر من سابقه يواصل السب واللعن.

وادعى أن سائق دراجة نارية يُلاحقه أينما يذهب مقلداً صوت منبه سيارة الإسعاف، الذي لا يطيقه ويثير قشعريرة لا إرادية في جلده، فيضطر إلى سد أذنيه مُضايقاً من دون قصد من يكون برفقته.

الحقيقة إن أصدقاءه الذين سمعوا ولولة سائق الدراجة النارية جزموا بأن الصوت الذي يُصدره هو أشد شناعة وإثارة للكرب من منبه سيارة الإسعاف؛ قال إنهم عرفوا نقطة ضعفه – صوت منبه سيارة الإسعاف- فاستغلوها للضغط على أعصابه.

اشتكى أنه لم يعد بوسعه المشي على راحته في الشوارع، إذ دائماً ما يسمع أشخاصاً من خلفه يُنادونه باسمه، فإن التفت يختفي المنادي عن نظره، أو يعطيه ظهره ببساطة.

أخبر أنه إن آوى إلى بار أو مقهى ليستجمع شتات نفسه، إذا بنكرات يقعدون إلى طاولة مجاورة لطاولته، فيأخذون في اغتيابه دون ذكره بالاسم، كأن يقول أحدهم: “من أين جلبتم هذا الممثل الطبل؟؟”. فيرد عليه الآخر: “من الإسطبل!”. ويغرقان في ضحك مقزز.

اعتذر المسرح الوطني الأوغندي عن عدم عرض مسرحياته بحجة ازدحام برنامجه بمسرحيات تحث على حب الوطن! لجأ إلى مسرح مستقل ليعرض مسرحياته، فطفحتْ بالوعة المجاري التي تقع قبل مدخل المسرح، فأعاق سيل المياه القذرة المتدفقة دون انقطاع دخول الجمهور، وأزكم أنوفهم بروائح نتنة.

وكانت الكهرباء تنطفئ دائماً قبل نهاية العرض بعشر دقائق، فيجن جنون الجمهور ويفقد صبره، ويقع طاقم العمل في حرج شديد.

بتبرعات سخية من التجار المعجبين بموهبته أنتج مسرحية “مسئول حكومي” التي تتضمن انتقادات لاسعة لتفشي الفساد في الإدارات الحكومية، وعرضها على مسرح متنقل – استأجر سيارة نقل مستخدماً صندوقها الخلفي كخشبة مسرح- فنال نجاحاً لم يسبق له مثيل، وحضر كل عرض من عروضه آلاف المواطنين.

نشرت له صحيفة الجارديان البريطانية مقالاً ينتقد فيه غياب الديمقراطية في بلاده، فأتى إليه أحد أبناء عمومته وأنبأه أنه تلقى تهديداً بالقتل بسبب مقالته، ورجاه ألا ينشر مقالات معارضة للدولة، وإلا فإن حياة كل أقاربه ستكون عرضة للخطر؛ اتهمه بالأنانية، وأنه يسعى إلى بناء مجده الشخصي حتى ولو تطلب الأمر التضحية بأقاربه وأبيه وأمه! وظل ابن عمه هذا يؤلب عليه أقاربه وعشيرته حتى تخاصموا معه وقاطعوه.

وكالضباب الذي ينتشر على غفلة، غدت كمبالا ذات التلال السبع تعرف كل أسرار حياته الشخصية، ومنها حادثة تعرضه لاغتصاب جماعي من ثلاثة فتية أكبر منه عمراً، أمسكوه وهو في طريقه إلى المدرسة، حين كان في الصف الخامس.

ذكر أنه في ساعة متأخرة من الليل اخترقت رصاصة زجاج نافذة غرفته واستقرت في الجدار أعلى بثلاثة أشبار عن رأسه، فاتخذ احتياطه من تلك الطلقات التي استمرت لليالٍ متتالية بالبيات تحت سرير نومه. وجرى إلقاء القبض على المشبوه الذي كان يطلق النار على غرفته، ولكنه فوجئ بعد أيام بإطلاق سراحه، بمبرر أنه مختل عقلياً، ثم أخذ هذا المختل المسلح يطارده عملياً في كل مكان يذهب إليه.

تدهورت صحته وفقد نصف وزنه نتيجة التسمم الغذائي المتكرر، فصام نهائياً عن الأكل والشرب خارج منزله، وصار يرتاب في كل شيء يُقدم إليه حتى لو كان قرص حلوى أو علكة، متوهماً أن هناك من يبتغي تسميمه.

هوايته المفضلة هي الاستماع إلى الإذاعة، لكنه في الآونة الأخيرة أمسى متيقناً أن الإذاعة الحكومية تتكلم عنه بالغمز واللمز في برامجها اليومية، وتُحلل شخصيته تحليلاً نفسياً تقنياً يقوم به خبراء أجانب، وترصد أقواله وأفعاله بدقة متناهية!

يوماً بعد يوم أخذ يهمل العناية بهندامه، وغطت لحية شعثاء نصف وجهه، وبدأ يتحاور مع نفسه بصوتٍ عالٍ، تارة ينفعل ويشتم، وتارة يرق صوته ويقهقه.

صار هيبياً نصف متشرد، يمضي جل وقته هائماً في الشوارع على غير هدى، حاملاً حاجياته الضرورية في حقيبة معلقة بظهره، ورائحة منفرة تفوح منه بسبب تركه الاغتسال.

راح ينام في أماكن لا تخطر على البال، معتقداً أنه بهذه المناورة يُضلل أعداءه فلا يقدرون على أذيته.

كان إذا صادف موسي حلاقة مرمياً على قارعة الطريق أخذه وحلق به ذقنه غير مبالٍ بالدماء التي تنز من وجهه ورقبته؛ ثم ينسى أنه قد اجتثها، فيخرج مشطاً صغيراً من جيبه ويشمط خديه متوهماً أن لحيته الكثة لم تبرح وجهه.

تم فصله من الجامعة بعد أن فقد قدرته على التركيز، وغدت محاضراته هذياناً غير مفهوم للطلاب، ومنع من دخولها بسبب الأسمال الرثة التي يرتديها.

صار منبوذاً وجميع أصدقائه يتجنبونه، وأغلق معارفه أبواب بيوتهم في وجهه. تشتت فرقته المسرحية، وطردته كل مسارح المدينة فلم تعد ترحب به، وانتهى به الحال إلى النوم تحت السيارات وتسول المارة سجائره وشيلينغات يشتري بها ما يسكت معدته.

لكن توني مواندا لم تنطفئ فيه جذوة البطل عطيل، وظل في ساعة موغلة في الليل يقدم عرضاً مسرحياً مذهلاً بمفرده، قاصداً أماكن تجمع المشردين الذين صاروا جمهوره السري المتواطئ معه.

كان يقدم لهم فقرات من الكوميديا السوداء، طول الفقرة من عشرين إلى ثلاثين ثانية، ثم يرقص البوولا مدندناً بلحن شعبي مدة عشر ثوانٍ، وخلال هذا الفاصل الراقص يرتجل أهجية سياسية جديدة؛ وهكذا يمضي مستمراً في تقديم عرضه قرابة نصف ساعة أو أكثر، ثم يغادر مُخلفاً وراءه المرح والحبور في تلك النفوس المحطمة.

وفي ليلة لف فيها الضباب الكثيف كمبالا، قرر رئيس الجمهورية عيدي أمين أن يحضر متخفياً في ثياب مهلهلة ليرى ويسمع بنفسه كيف يُمرغ ذلك الممثل السافل شرفه في الوحل.

في الواحدة بعد منتصف الليل انضم سيادته دون أن يشعر به أحد إلى الحلقة الضيقة من النظارة:

“دوم دوم دددم دوم.. ذهب الطبيب الخاص وهو إنجليزي شبق ينكح حتى البراغيث التي في سرواله إلى القصر لإجراء الفحوصات الطبية الروتينية، فتخيلوا ماذا حدث.. دوم دوم دددم دوم.. كان رئيسنا مخموراً قد تعتعه السكر، فحسب أن طبيبه الخاص هو الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، فخرَّ ساجداً له متوسلاً أن يُضاعف المعونة الأمريكية لأوغندا.. دوم دوم دددم دوم.. رفعه الطبيب الأشقر من الأرض وطلب عينة من بوله، فقال له الرئيس هل تريدني أن أبول على الشعب يا جيمي لكي تضاعف المعونة؟ لأجل خاطرك سأصدر أمراً باعتقال كل المثقفين وتعذيبهم في السجون.. دوم دوم دددم دوم.. طلب منه الطبيب الأزرق العينين عينة من برازه، فقال له الرئيس تريدني أن أعمل خرية كبيرة يا جيمي؟ لعينيك سوف أفصل كل موظف حكومي يرفض أن يُنكح، وسأربط الترقي في السلم الوظيفي بمقدار إخلاص الموظف وتفانيه في فتح مؤخرته.. دوم دوم دددم دوم.. طلب منه الطبيب الوقح أن يُنزل سرواله وينحني، فجثا السفاح على ركبتيه واستعطفه، أرجوك يا جيمي أنا لست متعوداً على هذه الأشياء، أتوسل إليك يا جيمي أنا متنازل عن المعونة الأمريكية! دوم دوم دددم دوم.. لكن الطبيب لم يُبالِ بتوسلاته وأرخى حزام بنطلونه، فبكى الديكتاتور وعرض عليه النوم مع نسائه، فشكره الطبيب على كرمه وأمره بالانحناء.. دوم دوم دددم دوم.. انحنى رئيسنا ودموعه تنزل على خديه كالمطر، وأدخل الطبيب مقياس الحرارة في شرجه، فصاح السفاح يكفي يا جيمي يكفي.. أنا ما زلت بكراً أيها الكاوبوي! دوم دوم دددم دوم.. أخرج ذلك الإنجليزي البارد الأعصاب الترمومتر وقال ممتاز 38، فقال له الرئيس بربك يا جيمي إنه أطول من 40 سنتيمتر لقد وصل إلى بلعومي! دوم دوم دددم دوم”.

يُقال حتى عيدي أمين لم يتمالك نفسه من الضحك، وعندما انتهى العرض تداعى الجميع إلى قدر يتصاعد منه البخار، وأكلوا بأيديهم الموز مطبوخ “ماتوكي”.

انسحب فخامته مقاوماً شرهه، وعاد إلى مقر إقامته منشرح الصدر مزهواً بنجاحه في تحطيم خصومه.

بعد أسابيع قلائل، وتحديداً في الثلاثين من أكتوبر عام 1978 اتخذ عيدي أمين قراراً بغزو تنزانيا، ومع تصاعد وتيرة القتال ظهرت بوضوح على سيادته أعراض جنون الارتياب، فأعدم خيرة ضباطه، وأخذ الشك يساوره في كل من حوله، ولم يعد يثق بأحد.

ربحت تنزانيا الحرب، واسترد الأوغنديون بلادهم من قبضة عيدي أمين الذي خسر منصبه وفر إلى المنفى متأبطاً جنونه المتفاقم.

*وجدي الأهدل- كاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات