Accessibility links

صفحات من رواية «تماس حياة أخرى» لـ سمير عبدالفتاح


إعلان

العالم لم يعد بحاجة إليّ.. لم أعد رقمًا فيه.. هذا الشعور يجعلني أنتحي جانبًا، وأحدّق بصمت في الآخرين، الذين ما زالوا يلعبون، أو على الأقل الذين يعتقدون أن العالم ما زال يرغب بهم.. أحدّق وأحاول معرفة كيف يلتهم المكان الناس، كيف يطوّعهم ويثنيهم، ثم يلفظهم إلى الزوايا..!
أرى أفرادًا وجماعات يلوّحون بأيديهم في خانة البداية دون أن يشعروا بما ينتظرهم.. أراهم وأفكّر بتنبيههم إلى حلقات المتاهة التي يدورون داخلها، أمد يدي لأرشدهم إلى باب الخروج، لكنني أخفض يدي واستمر بالتحديق بانتظار فرصة أفضل لتحذيرهم، وأحيانًا أفكر باحتمالية وجود فرصة لي للانضمام إلى قلب العالم مجددًا.
لم أكن أنظر للعالم هكذا.. كان عالمي أصغر وأكثر هدوءًا.. (هي) من أزاح جانبًا من الجدار الذي اختفى العالم وراءه، صوتها كان يخفي ضجيج العالم، وعندما رحلتَ أحذَت ضجيج العالم كله.
يغمرني – الآن – هدوءٌ لم آلفه من قبل.. ليس هدوءًا عاديًّ، بل تجمدًا.. جمود غريب يجعل تفاعلي مع الحركة ومع الأصوات محدودًا جدًّا، أرخيت نفسي ولم أعد أقاوم، ومع مرور الوقت أشعر كمن يستيقظ من غيبوبة، الملامح حولي شكلها مألوف لكنني لا أعيها جيدًا.
اقتربتُ من عالم الجنون، وابتعدتُ عنه في نفس اللحظة.. أو ربما ما زلتُ في منتصف المسافة بين العقل والجنون، أحاول العودة، وفي نفس الوقت انتظر أن يبلعني الجنون لأرتاح.
أقف في الهامش محاولاً معرفة من أنا، ولماذا وصلتُ إلى هنا؟!
تدفقتُ في الحياة.. سنوات لم أعد قادرًا على احتسابها، بعضها سيّئ، وأتمنى لو لم أعشها، وأخرى مقبولة، وفي أوقات كانت الحياة أقرب إلى الاتزان، وكنتُ أعتقد أنني قادر على تمييز الجانبين (السيّئ والجيّد، لكن – الآن – الصورة مختلفة، المقياس اختل، ولم أعد متيقنًا ما الجيّد وما السيئ.. ومؤخرًا بدأتُ أشعر بمرارة كأس الحياة الذي شربته طوال سنوات، وبدأتُ أرثى نفسي وأرثى لها أيضًا..
في حياتي توجد أشياء جيّدة، لكن السواد يطغي عليها ويحوّلها إلى بُقع صغيرة في ثوب الحياة المظلم.
أنا متعب الآن، منهك، كأنني وصلتُ إلى الجدار الأخير، وهذا ليس سيئًا بحد ذاته.
ما يربكني هو تناقص قدرتي على التركيز والتفكير، عالمي الذي طالما حماني وميّزني عن الآخرين أخذ يتهاوى..
الذاكرة والدقة تترنح في أعماقي، وهذا يُعتبر الكارثة الأكبر لشخص عاش طوال حياته معتمدًا على ذاكرته وبحثه عن الحقيقة في عالم متداخل لا تعرف متى يكون عدائيًّا ومتى يكون أليفًا.
ذاكراتي تشتعل أمامي أحيانًا، وتغلقني داخل أيامي الماضية، وأحيانًا يغمرني فراغ أبيض، كأن ذاكرتي فارغة، وأحيانًا أعتقد أن حياتي كلها حلم طويل، وحان وقت الاستيقاظ.. والأكثر سوءًا تحوُّل ذاكرتي، في الفترة الأخيرة، إلى جزر متناثرة تنفصل فيها الأزمنة والأماكن والأحداث.. ويلزمني مجهود هائل في إيصال بعض الجزر ببعضها، وعندما أحاول استعادة تفاصيل ما جرى أو أتحدث إلى أحد لا تساعدني ذاكرتي وأتوه في تفاصيل متشعبة، لا أستطيع الانتظام فيما أحكيه، بصعوبة أصل إلى ما أريد.. هناك فجوة بين الأحداث في ذاكرتي تجعلها متقطعة، ولا تفسير لهذا إلا أن بعض ما حدث قد انمحى من ذاكرتي.. وهذه المشكلة تزداد مع مرور الوقت.. أيضًا لم أعد حساسًا بما يكفي تجاه الزمن.. أحيانًا أعتقد أن الزمن يمر ببطء، وأحيانًا يتوقف تمامًا، ولولا الساعة الكبيرة في الحديقة هناك أمام البحر لَمَا تنبهت لوجود خلل في إحساسي بالزمن.. لذا أنا بحاجة إلى مساعدة تُمكنني من الاحتفاظ بذاكرتي، بحاجة إلى نشر حكايتي، إلى مستودع أضع فيه ذاكرتي، وعندما أرغب في معرفة ما جرى لي أجد إجابة.. عندما تختل ذاكرتي تمامًا أعتمد على المستودع لأعرف من أنا..

   
 
إعلان

تعليقات