Accessibility links

إعلان

عبدالله الإرياني

ها أنا وقد بلغت الخمسين.. قد عدت أفتش عنهم.. يوسف إدريس، محفوظ، توفيق الحكيم، مسرحيات شكسبير، عبرات المنفلوطي التي أبكتني مراهقاً و..و..و.. عدت إليهم جميعاً وتركت ما شغلني عنهم لمدة تزيد عن ثلاثين عاماً.. حتى قلمي الرصاص الذي لازمني ولم يفارقني طوال كل تلك السنين – أقل من ذلك- تركته وعدت إليهم.. لم أجدهم في مكتبتي فأين ذهبوا وقد كانوا شغلي الشاغل وأنا مراهق وفي مطلع العشرينات من عمري.. عدت أفتش عنهم في مكتبتي ومكتبة أبي ولكني أبداً لم أجدهم.. وعدت إلى ذاكرتي أنفض عنها غبار الزمن فإذا هم ما زالوا في عقلي الباطن كما كانوا عمالقة كما وجدتهم.. ونفضت الغبار غبار الزمن عن هوايتي التي تركتها بتركهم فوجدتها وفية وكأنها منتظرة – طوال كل تلك السنين- عودة الحبيب لحبيبه.. رجعت أسمع فيروز كما كنت أسمعها مراهقاً وبحثت عن صورتها ووضعتها في محفظة جيبي.. لقد استعدت وفي لحظة لا أدري كيف أصفها كل أحبتي الذين تركتهم لكل تلك السنين.. وإذاعة لندن عدت إلى سماعها كما كنت أسمعها بشغف وقبل أن يكون هناك تلفزيون وفضائيات.. حتى حبي الأول قد عاد حياً في ذاكرتي.. أكتب اسمها في أرصفة الشوارع وحوائط الأسوار وإشارات في الهواء وأحاول أن أستعيد ملامح وجهها وصدى صوتها وحروف رسائلها الطفولية التي كنت قد أحرقتها في لحظة من لحظات الطيش، ولم أكن أدرك حينها بأني قد أحرقت بحرقها جزءً من تاريخي، وهاهو الآن والآن فقط يعود وكأنه كان بركاناً خامداً طوال تلك السنين.. عدت إلى هوايتي القديمة وإليهم وإلى فيروز وإذاعة لندن وإلى وإلى.. عدت ألمسهم وأسمعهم وأنظر وأتطلع إلى كلماتهم إلا حبي الأول فليس لي منه إلا الذكريات.. يسألني صديقي: لماذا كل هذا العناء؟ فأرد مستغرباً: أي عناء؟

صديقي: عناء البحث والتذكر فالحاضر والمستقبل ولقمة العيش أهم.

فأرد قائلاً: ولكني لم أستطع أن أسبح ضد التيار.

أي تيار؟

تيار يجرفني للعودة إلى أيامي الحلوة.

فهل هو الهروب من الحاضر؟

ربما يكون هروباً ولكنه الهروب اللذيذ.

ولكن الهروب يظل هروباً فلابد من العودة إلى الحاضر.. لابد.. لابد.

أدري.. أدري بأن التيار المتدفق إلى الأمام أقوى.. أقوى وأشد من التيار الذي قد يشدك إلى الخلف في لحظة من لحظات الضعف الإنساني.. قد يكون نتيجة لما يدور من حولنا.. وأدري بأن الحياة ومتطلباتها أقوى من الاكتفاء والاستسلام لماضٍ جميل، ولكن هناك شيئاً لن أستطيع أن أتركه بل لن أستطيع أن أقاومه بعد أن عاد إليّ بعد كل تلك السنين..

أجده وقد نفض وأزال عن نفسه غبار الزمن وصدأ السنين.. فيسألني صديقي:

وما هو؟

إنه شيطان القصة.

وشياطينك الآخرين.. إدريس، محفوظ، و..و.. وفيروز.

إذا كان هناك متسع للوقت فسأعود إليهم فهم شياطين يمكن السيطرة عليهم.

وحبك الأول؟

ذكرى جميلة.. سأتغلب عليه إذا ما عاد في لحظة من لحظات التأمل بالكتابة إليه.. رسائل أطيرها في الهواء فقد تجد طريقها إليه.

وستعود إلى القلم الرصاص؟

لابد أن أعود وإلا فأن الشيطان قد يصاب بالأنيميا.

ولكن قلمك قد يضيع شيطانك!

نظرت إلى قلمي الرصاص وإلى قصتي الجديدة التي ما زلت أبحث عن النهاية المناسبة لها وقلت:

سأحاول أن لا يضيع أحدهما الآخر، لأني بحاجة إلى الاثنين.

ولماذا لا يكون شيطانك.. شيطاناً وقلماً؟

أطلقت تنهيدة طويلة وقلت:

يا ريت.. إلا أني أعتقد بأن ذلك لا يمكن إلا إذا .. إلا إذا.. إلا إذا أعفيتني من أسئلتك.

   
 
إعلان

تعليقات